الأوجه المحجوبة لسيناء
لو موند\ مبعوث خاصهل تحولت سيناء وهي الموقع السياحي المشهور عالمياً والمنتجع المفضّل للإسرائيليين إلى حصن للجهاديين ؟ بالنسبة للدولة اليهودية أصبح هذا للأسف مؤكدّاً وقد نبهّت بشكل صارم إلى الامتناع عن زيارتها. وتذكّر تفجيرات دهب- 23 قتيلاً في 24 نيسان-, وقبلها طابا- 34 قتيلاً في 7 تشرين الأول 2004-, وشرم الشيخ- 70 قتيلاً في 23 تموز 2005- تذكّر بهجمات القاعدة .
في كل مرة كانت تنفجر ثلاث سيارات في وقت واحد. في كانون الأول 2005, شرحت القيادة الإسرائيلية لمحاربة الإرهاب الموقف كالتالي:" يوجد في سيناء ثلاث أنواع من التنظيمات الإرهابية : خلايا القاعدة, خلايا مرتبطة بتنظيمات فلسطينية وخلايا محلية لإسلاميين مصريين تجتذب أعضاءها من بدو سيناء."
إن شبه الجزيرة تمتلك المقومات المثالية لقيام كل النشاطات غير الشرعية: قمم عالية , كهوف وممرات منحوتة. كثير من الرحالة وقعوا في غرام هذه المشاهد القمرية. يكتب الكسندر دوما عام 1830:" إنها مسرح المشاهد المثيرة التي تروي حكاية المتاهة. أمام هذه الطبيعة الخرساء, العارية والمهجورة, حيث لا ينبت جذع بين الصخور العقيمة, اضطر الإسرائيليون أن يفهموا أنه لا ملاذ لهم إلا السماء, ولا أمل يعقدوه إلا على الرب." واليوم أيضاً , على هذه الأراضي القحطاء, يبقى الرب هو الأمل الرئيسي للسكان, ومعظمهم من البدو الرحّل. بالنسبة للحكومة المصرية , لا وجود للقاعدة هنا, حتّى لو بدأوا يتبينون حضور الجهاديين في سيناء بقوة. كل التصريحات تشير إلى أن" الهجمات من صنع مجموعات من البدو الإرهابيين الذين يجب تأديبهم. "
يعتبر الجنرال يحيى أغامي خبيراً بأراضي المنطقة. ففي عام 1973, كان يقود وحددة النخبة ويفتخر بكونه من قتل آخر إسرائيلي في سيناء, وذلك قبل نصف ساعة بالضبط من وقف إطلاق النار. يؤكد قائلاً:" البدو ليسوا موضع ثقة". وهناك فكرة ثابتة عنهم أنهم ليسوا سوى حفنة من السارقين وذممهم معروضة للبيع بأعلى سعر. ويتابع الجنرال :" في عام 1973, أمرتني القيادة بخنق اثنين , وبدافع الثقة , ترجياني أن أنتظرهما عشر دقائق, ففعلت , وما زلت أنتظر حتى اليوم ! قبل أن تقوم الدولة بعملية إخلاء وتنظيف سيناء من الجيش والأسلحة , قام البدو بتخزين المتفجرات والعتاد . وهم يفتخرون بذلك ."
تحتفظ سيناء بندوب الحروب العربية – المصرية التي استمرت من 1967 وحتى 1973, ومن ثم الاحتلال الاسرائيلي الذي دام حتى 1982, ولقد عثر عام 2005 على جثث خمسة جنود مصريين قتلوا عام 1967. ويتذكر البدو أنهم طالما نشروا غسيلهم بين المدافع الصدئة والصهاريج المتروكة . يقول الجنرال :" عندما يشعرون بضائقة , يعرفون كيف يجتازوا الحدود غلى إسرائيل . أما أمراء القبائل فيبحثون عن إقامة علاقات طيبة مع الحكومة المصرية ويمكن اعتبارهم تممثثلي القاهرة . إنهم أناس يريدون أن يعيشوا باطمئنان , وهم مستعدّون للقيام بأي شيء مقابل المال. ويعتمد وضعهم الاقتصادي السيء إجمالاً في جزء منه على تجارة المخدرات."
محمد أبو منعوم, شيخ بير الحفن يعتبر الدليل الحي على قوة الثقافة البدوية. مع أنه يملك أكبر منزل في القرية, لكنه ينام في العراء أمام باب البيت , رغم الليالي الباردة. العجوز وافي , ينتمي إلى ال4000 بدوي الذين بقوا رحّلاً. بيت الشعر الذي يعيش فيه عبارة عن خيمة من جلد الخاروف, مكللة بنباتات شعرية. منذ أن " أصبحت الحياة غالية كثيراً ", باع كل جماله وأصبح يعتاش من رعي الماعز. وعندما يتذكر الجمال يضيء وجهه وهو يقول :" الحليب الدافئ المأخوذ من الضرع مباشرة هو نكتار لذيذ ويقويّ كثيراً. من يشربه يستطيع أن يمّزق أي رجل بيديه العاريتين! من عشرين عاماً جاء إلي أغراب وطلبوا مني حليب الناقة. يا للجهلة المساكين! لم يكن عندي سوى جمال ذكور!"
يقول الفيلسوف عيد عطية :" الرزق قضية ربانية". الرجل جاء من النوبة وبعينيه المكحلتين يبدو أكبر بكثير من أعوامه ال65. منذ هجمات شرم الشيخ وطابا تقلصت عائدات بدو الجنوب – السفاري السياحية- بسبب التصاريح المطلوبة من الشرطة وازدياد عدد الحواجز ومنع البيات في الصحراء... ويتنهد قائلاً :" إنها مأساة اقتصادية , ولكن لدينا الوسائل لنفعل مانريد, وبالزمن الذي نريده." هل هذا يشمل الجهاديين ؟ ممكن جدّاً . العملية ليست بالغة التعقيد.
موعد على طريق, قبل أحد الحواجز البوليسية. ثلاثة جمال ينتظروننا. ليلة قصيرة واحدة كانت كافية للمجموعة لينظموا لنا الراحلة. وعندما أشرنا إلى وسيلة للربح مجزية أكثر من ذلك , متصلة بالزراعات الغير شرعية , ارتعب عيد وقال :" إذا اصطحبتك إلى هناك, يقومون بقتلي وقتلك وينثرون رمادنا في الصحراء! وأراهنك بمبلغ مليار دولار أنك لن تجد ( بانغو) في محيط قدره عشرات الكيلومترات." رهان خاسر مسبقاً.
في دهب, مدينة السباحة التي يرتادها هيبيين- تكنيكيين, يتبادل الناس البانغو في كل الزوايا. إنه يزرع في الوديان المنحوتة حيث تقوم الشرطة بغارات دورية. الجنرال أحمد فولي, حارس شخصي سابق للرئيس السادات, لن ينسى أبداً هجومه مع وحدة مكافحة المخدرات عام 1996. يروي قائلاً :" كانت الحقول تقع وسط لاشيء, في منطقة لا يمكن الوصول إليها إلاّ بطائرات الهيلوكوبتر." كان النصر غير مضمون . في 24 تشرين الثاني 2004 أسقطت طائرة تابعة للوحدة بالإطلاق عليها من جبل (لبني)."
البدو يعرفون أين تقع هذه الحقول ولكن لحفظ السلام بين القبائل يتجاهل الجميع الخارجين عن القانون. الكثير منهم يدخنون ويبيعون الحشيش, ولكن أحداً منهم لايتعامل مع قواد الجبال. اصطحاب الغرباء لرؤية المزارع عقوبته الموت. يتغذى المزارعون المعزولون في الوديان بالطيور. الرؤوس العديدة للطيور المرمية في الأرض تؤكد للناظر بأنهم صيادون مهرة. عيد عطية وافق في النهاية على الإشارة من بعيد إلى حقول في وادي وتير. وبالتأكيد فإن هذه المناطق الغير خاضعة للسيطرة تستعمل لمرور الأسلحة والمهاجرين, صينيين أو روس, " يمرون" من إسرائيل إلى مصر بفضل البدو الرحّل , عبر صحراء النجف.
البندقية تنتمي إلى الثقافة القبلية. من ثلاث سنوات , أدى استفزاز امرأة من قبيلة العزازمة من قبل قبيلة طايحة إلى عدة أموات وهرب العزازمة إلى إسرائيل. نخيل, في قلب سيناء تحوي 5000 ساكناً وسائقي تاكسي : حسن وأكرم. ولسبب نسيه الجميع فإن الاثنين يكنان لبعضهما كرهاً قاتلاً. حسن لا يركب في تاكسيه بدون أن يرافقه أبناؤه الثلاثة وبندقيته. الوديان المحيطة تطن فيها بشكل منتظم طلقات نارية. الفندق الوحيد في نخيل, الشرق الأوسط, محجوز لزبائن محددين : أمراء عرب وأثرياء من الخليج جاؤوا لاصطياد الثعالب, الغزلان, الأرانب وحتى البوم. وهنا أيضاً تم توقيف خليتين إسلاميتين تعملان من خلال مسجد التوحيد. يقول الجنرال أغامي :" إننا لا ننفي وجود السلفيين. إنهم يختبؤون في جبل الحلال وفي مغارة. وهم عرب العريش يساندهم البدو مقابل المال."
وبحسب أشرف أيوب, العضو التعيس في حزب التجمع ( اليسار الماركسي) , فإن هذه الجماعات قد استفادت من الجو الذي كان مسيطراً في فلسطين في بداية الانتفاضة الثانية, وتحت غطاء مساندة الفلسطينيين, أخذوا بإلقاء اامواعظ التي أصبحت متطرفة أكثر وأكثر. واليوم انتشرت السلفية في المدينة". وقد اتصلت لو موند بإحدى الجماعات التي رفضت أن تتكلم.
العريش, مدينة تجارية من 100000 ساكن, على شاطئ المتوسط, هي عاصمة سيناء الشمالية. تمتلك المدينة القريبة من رفح , وهي المدينة الحدودية لغزة, تمتلك هوية عثمانية أكثر منها مصرية. تعود العائلات إلى أصول تركية أو بوسنية. أما الفلسطينيون اللاجئون من عام 1948, فهم كثر. والباقون مصريون. في عام 1968, عندما عرض الجنرال الإسرائيلي موشي دايان عليهم الاستقلال , أجابه الشيخ سالم الهرش : " أنتم محتلون. لا تملكون ذرة رمل واحدة في سيناء. هذه الأرض مصرية."
ويدعي أشرف أيوب أن الحكومة اليوم تعامل سيناء بأسلوب عنصري. ويقول :" نحن نرفض أن نكون أكراد مصر! مبارك (الرئيس) يستغل الجنوب ليبني الفنادق والقصورفي شرم الشيخ. ولكنه يخضع الشمال للتمييز. تبلغ كثافة السكان 2 في الكيلومتر المربع ومع ذلك فإن البطالة تجاوزت 25% ووصلت 30% بيننا. ليس لدينا الحق في امتلاك أراضينا. تعود ملكية سيناء وآبارها إلى الحكومة. لا توجد جامعة واحدة. نحن محرومون من كل شيء , بما فيه أهم شيء : الماء."
شبه الجزيرة تتعرض للجفاف منذ 12 سنة. تتلقى العريش ساعة واحدة المياه القابلة للشرب في اليوم. بقية الوقت تكون المياه مالحة. في مدخل حي ساغا, يخرج أنبوب من دكان الحذّاء وهو يتأرجح. يحرسه الحج إدريس طوال النهار : عندما يبدأ بالتنقيط , إنذار عام , يصرخ : "إلى البيدونات ! إلى البيدونات !" ويقول :" نحن نعيش مثل الحيوانات , وأطفالنا يستحمون في وعاء. في الجامع, ليس هناك ماء للوضوء يمكن أن يبقى الأنبوب جافاً لمدة أسبوعين." وبحسب الدكتور ممدوح جودة وهو طبيب في أكبر مستشفى في سيناء, يقول:" في سيناء الشمالية يبلغ عدد المرضى ضعفهم في أي مكان آخر. يولد الأطفال مرضى . يعاني 70% من الفشل الكلوي. وهذا يتطلب أدوية قوية, لا تتماشى مع حالات الحمل. أنا أوصي بالإجهاض- هذه دراما داخل مجتمعنا."
إن خيبات الآمال في العريش تتحول إلى غضب عارم عندما يتطرّق الحديث إلى اسمنت سيناء, زهرة الاقتصاد المصري والمبنية على بعد 60 كم منها. فالمصنع الحديث يوظف 3500 عاملاً - كلهم جاؤوا من الخارج- ويستخدم شبكة خاصة لمياه الشرب ليس لبغداد – وهي القرية المتجاورة حدودياً معه- حق استخدامها. يقول حسن راتب المالك التنفيذي (15%) , والصديق الشخصي لجمال مبارك ابن الرئيس :" نحن صنّاع سلام , نحاول رفع مستوى الحياة في سيناء عن طريق تطويرها." يمتلك السيد راتب أيضاً سما العريش, منطقة مخصصة للسياحة. وهو يعد بإنشاء جامعة. في العريش , لاأحد يصدقه. ومصنع الاسمنت متهم ببيع الاسمنت الأبيض إلى إسرائيل , وهو ما ينفيه المالك.
منذ تفجيرات طابا, تطوّر الغضب وأصبح ينال الحكومة. في العريش كما في نخيل, احتجزت قوات حفظ النظام 3500 شخص, لا تعرف عائلاتهم شيئاً عن أخبارهم منذ شهور. ويصف الشهود المتعددون المحرّرون أنهم يتعرّضون للاستجواب والتعذيب بكل أصنافه – وبحضور ال CIA على حد قول مصدر أمني في سيناء. يقدّر الجنرال فولي الوضع بقوله :" قد تكون هجمات طابا من فعل الإسلاميين , ولكن الظاهرة تفاقمت بعد أن حدثت كل هذه الاعتقالات المخجلة لبلدنا والتي ضاعفت أعداء النظام. إن البدو لا يحتملون أن تلمس نساؤهم . والحقيقة أن كثيرات منهن قد أسيئت معاملتهن. لقد اضطرت الشرطة إلى التفاوض مع زعماء القبائل الذين وحدهم كانوا قادرين على احتواء البدو."
استئنفت الاعتقالات بعد أحداث شرم الشيخ, مسببة الكثير من الاحتجاجات والفوضى. والجواب كان صارماً . فخلال الانتخابات في 7 كانون الأول, أحيط بالعريش بالاستعانة بالغاز المسيل للدموع والحواجز المسلحة. ويشرح أشرف أيوب :" كان الناس خائفين فهم لم يروا مثل هذه المظاهر منذ أيام الحرب. تحولت العريش إلى ثكنة."و يعلق عبد الرحمن شربجي , ممثل الإخوان المسلمين :" أن ابنه وعمره 17 عاماً استجوب لمدّة عشرة أيام وهو أخرس- أصمّ. وأن واحد من مؤيديه واسمه رائد ملّوح , عذب بالكهرباء. أين صنعت آلات التعذيب هذه ؟ ولماذا تشارك الCIA بالاستجوابات ؟ لماذا تقبل مصر بمثل هذا التدخل الأجنبي ؟
" منذ اتفاقيات كامب ديفيد (1979) تدار سيناء حسب الهوى الاسرائيلي. في الحقيقة لقد انتصرت إسرائيل في الحرب, فسيناء لم تحرّر بعد." هكذا يعترض أشرف أيوب بالقول مثبتاً أن الغضب وروح الانتقام تتفاقم. في السوق السياحي القديم لشرم الشيخ, يراقب عامل واجهة المركز التجاري الذي صار رماداً بعد تفجيرات الصيف الماضي والذي عاد جديداً اليوم. كثير من زملائه قضوا في الانفجار . ومع ذلك يقول منتحباً :" أتمنى لو أن أحداً يفجره من جديد ." لماذا ؟ " لأنني أعمل مثل العبيد مقابل راتب ..."