الأربعاء، 21 يناير 2009

شيشة في رفح


أميرة الطحاوي *

ليس هذا الحديث عن غزة، أوموقف حكومة مصر مما جرى فيها،، لكنه سؤال عما إذا كان الإدارة المصرية قد تعاملت بالمسئولية والكفاءة مع تبعات متوقعة لهذا الحدث على أرضها، ولنقل على الأقل في مدينة رفح الحدودية.

في الزيارة الأخيرة لمنفذ رفح أشاهد عربات المساعدات في صف طويل بينما الساعة تتعدى الثانية عشر..من زيارات الأيام السابقة أعرف أن هذا الصف يتكون مساء كل يوم، وبمجرد أن تفتح بوابة المعبر صباحا نحو الساعة العاشرة حتى يخف الزحام تدريجيا؛ إذ يسمح لمئات السيارات التي تحمل مساعدات طبية بالمرور( المساعدات الغذائية تنقل عبر معبري كرم ابو سالم والعوجة مثلما أصر الإسرائيليون).. هذا اليوم مختلف؛ فالحزب الوطني وبعد زيارة جمال مبارك نجل الرئيس المصري بيوم انتبه أو نبهه أحد أنه لم يظهر بما يكفي في المعبر، فأرسل سيارات المساعدات تحمل شعاراته، كما توافدت السيارات المحملة بالمساعدات من رجال أعمال بارزين بالحزب، وهؤلاء أرسلوا بدورهم أتوبيسات سياحية - عددت منها أربعة- يحمل كل منها نحو ستين من موظفيهم ببزاتهم الرسمية، بقى هؤلاء منتظرين لا يفعلون شيئا..وحتى موعد الغذاء نحو الثالثة فتخرج الأطعمة ثم الشاي وخلافه..وليس أقل من الشيشة التي حضرت معهم من الجيزة، وجلس يدخنها أحد الموظفين على الرصيف بجوار الأتوبيس وسط شاحنات المساعدات. وكان المشهد متعة للناظرين والمصورين.


لماذا أتوا بعد زيارة الابن في اليوم السادس عشر لبدء العدوان الإسرائيلي؟ ولماذا اصطحاب كل هذا الحشد الإداري ؟ ليطمئنوا علي مرور المساعدات؟ بالطبع لم يأتوا للتبرع بجهد إذ لا يحتاج نقل المساعدات من شاحنات النقل المصرية داخل المعبر إلى سيارات فلسطينية لتمر إلى الجانب الآخر إلا لبعض الرجال غالبهم متطوعون من سيناء نفسها؟ ولماذا توقفت عربات الحزب الوطني أمام بوابة المعبر ومعهم نحو عشرين شابا يرفعون قوائم خشبية تنتهي بصورة موحدة لمبارك تعود لأول الثمانينات فيما يشبه مظاهرة ضد العدوان على غزة؟ من هو القيادي الذي أفتى بهذا التصرف الأهوج الذي عطل مرور الجرحى والمساعدات من المعبر (حتى ولو لساعة) لالتقاط الصور والتسجيل مع الإعلام، ولماذا أصرت سيارات مساعدات الحزب الوطني على دخول المعبر معا كحشد (اللهم ابعد عنا تفسير تمحور الرغبة في التصوير.. وقرب منا غيره من التفاسير) ترى لماذا يحرص الحزب الوطني على إغضاب الناس بينما يقوم بعمل خيري ولنقل تجاوزا أنه لإرضاء الله أو تخفيفا عن أوزار أخرى؟.


وللأمن يد لم يطلبها أحد:

كل صباح منذ بداية سماح الجانب المصري بنقل المساعدات بعد وصول الجريح الفلسطيني الأول لمصر في اليوم الثالث للحرب، كان يأتي رجال غالبهم من مناطق مختلفة من سيناء للمساعدة في إعادة تحميل المواد.يسجلون أسماءهم ويتركون بطاقات الهوية، وعندما يتأكد الأمن أنهم ليسوا خطرا على أحد يوافق علي عدد منهم وصل في أقصاه إلى ٧ أشخاص في الأسبوع الثاني للحرب..البعض جاء من القاهرة..كثيرون تملكهم الملل من طول الانتظار ولا يملكون كلفة البقاء في مدينة العريش المجاورة ليعودوا للمعبر في الصباح ربما يسمح لهم بتقديم المساعدة،لماذا قام الأمن بتطفيش هؤلاء؟ والحقيقة أن الأمر كله كان ليتم أسرع لو أن هناك عدد من المعدات التي تنقل الأغراض من سيارة لأخرى ويسمونها رافعات ويمكن استئجارها باليوم.لكن يبدو أنها لم تصل بعد لذهن أحد هنا.

كان يمكن للنظام السماح لمواطنين راغبين بالفعل في المساعدة أن يقدموا شيئاً لأخوة لهم، ومنعهم من هذا يبقى غير مفهوم بل وسيفسر بأن النظام نفسه يقدم المساعدات مضطرا لذر الرماد أو إخلاء الذمة.

الوقت الطويل الذي قضاه جمال مبارك في زيارته في معبر رفح كان كافيا تماما لمزيد من التعطيل، ١٢ دقيقة بالتمام والكمال ومع ذلك أغلق المعبر منذ الثانية عشر ظهرا وبعد نصف ساعة يمنع بقية الصحافيين من دخول المعبر فيكفي من سبق، وعندما يهل الموكب في الثانية ظهرا يكون على يسار بوابة المعبر خيمة بديعة الألوان..سأغتاظ عندما آتي في اليوم التالي ولا أجدها واضطر كغيري لافتراش الأرض والدكك الحجرية.


مصر وإسرائيل: أسباب مختلفة لإبعاد الصحافيين:

لكن للزيارة نجل الرئيس وصحبه لرفح حسناتها التي لا تنكر؛ فقد سمحت وحدات التفتيش في شمال سيناء يومها للصحافيين بالعبور على الطريق الرسمي، وكان يطلب منهم سابقا ومنذ اليوم الثامن للحرب أن يحصلوا على تصريح خاص من هيئة الاستعلامات والتي لم تكن تتكاسل في إعطائه، ثم طلب تصريح من أمن الدولة فردت الاستعلامات أن إعطاءها تصريحا لشخص يحمل ضمنيا موافقة أمن الدولة عليه، ثم طلب الأمن موافقة ما أسموه استخبارات الجيش أو ما أصبح الصحافيون الأجانب يطلقون عليه "موافقة وزارة الدفاع" وسط ضحكاتهم لأنه في كل الأحوال قد عرفوا الطريق الآخر للوصول لسيناء عبر البدو التفافا على الكمائن الخمس في مدخل شمال سيناء من نقطة بالوظة.

فهم بعض المراسلين الأجانب من منع الحكومة المصرية لهم في الأيام الأولى للحرب أن الجريح الذي ستلتقط له الصور لم يصل بعد، وأن تصوير سيارات الإسعاف منتظرة لايعني بالضرورة أن هناك من منع الجرحى من القدوم من غزة...

في يوم الزيارة الميمونة لنجل الرئيس تولى أمن رئاسة الجمهورية تأمين مدخل معبر رفح وسمح لبعض الصحافيين بدخول معبر رفح مع ترك هواتفهم المحمولة(دون تفسير رغم أن بعض المراسلين يستخدم هاتفه المحمول في نقل الكثير مما يحدث هنا ومما يراه ويسمعه يحدث هناك عبر الحدود في غزة خاصة بعد رفض إسرائيل دخول الصحافيين الأجانب لغزة أثناء حربها عليها للتعتيم على جرائمها أثناء العدوان) ثم يمنع بقية الصحافيين في الثانية عشر والنصف من الدخول بلا سبب بانتظار زيارة جمال ورفاقه.

تبدو الحكومة المصرية حريصة كنظيرتها الإسرائيلية على وضع المزيد من القيود على حرية عمل وتنقل الإعلاميين؛ تطلب الأمر يومين للوصول إلى رفح، لأننا أردنا إتباع الطريق الرسمي فانتظرنا ساعات ثم عدنا للقاهرة بخفي حنين، الكل سيتهمك بالغباء أو بأقل تقدير السذاجة “ألا تسمعون عن البدو..بضعة نقود وتصل" ..لماذا وضعت الأجهزة الأمنية هذه الشروط المتعنتة وهي تعلم أن معظم الصحافيين الأجانب سيتحايلون ضدها للوصول لرفح وحتما سيصلوا ؟ لماذا تحب هذه الأجهزة أن تجعل من نفسها "محل سخرية" بقرارات لا مغزى لها ولا ضامن لتطبيقها؟

عند عبور مئات الفلسطينيين فبراير من العام الماضي إلى سيناء حدث ارتباك مهول في تعاطي الأجهزة التنفيذية مع الحدث، هذه المرة كان التأهب المصري على أشده..في هذه الزاوية الكثير مما يقال. لكن متلازمة حرب إسرائيلية على مواطنين أبرياء عزل على حدودنا لا يجابه بإحكام المنافذ والتأهب الأمني، بل بمتلازمة من المهارات التي لم تكتسبها إدارات حكومتنا بعد.

ثم لماذا منع قوافل المساعدة الشعبية: هل خوفا من شعاراتها الملصقة على سياراتها: ألا يعرف أمننا المصري الهمام أن صناديق المساعدات تنقل معا ولن يلتفت متلقي العون لكون مصدره حكوميا أو أهليا..نظاما أو معارضة؟

ليس الأمر كله سيئا..إدارة الأمور في رفح أمام كارثة إنسانية على الضفة الأخرى من السياج يحتاج بعض المرونة وسرعة الأداء.هناك من أثبت كفاءة:.الهلال الأحمر المصري الذي كان مسئولا في المدينة عن استقبال مساعدات حكومية عبر مطار العريش ومنها لاستاد العريش حيث توضع على حافلات نقل وترسل للمعبر، وكان مسئولا عن إعطاء إجازات الدخول للمعبر للمساعدات القادمة عبر البر: داخليا؛ من مواطني محافظات مصر كلها،ومن دول عدة. إنه جهد مقدر يوازيه التنظيم الجيد الذي ظهرت به منظمات أهلية ومنها "الجمعية الشرعية" التي حرصت على دقة تغليف وفرز المساعدات...علمت لاحقا أن بعض المساعدات الغذائية كانت تتأخر في المرور عبر المعابر مع إسرائيل بسبب اشتراط الأخيرة لارتفاع معين للصناديق أوطرق تغليف أكثر متانة –على حد تفسيرهم- الخ.ويبقى سؤال منطقي: لماذا لم توافق مصر على تمرير المساعدات الغذائية مباشرة عبر رفح أثناء الحرب؟ لا أستطيع تخمين أي إجابة هنا.

موقف آخر يستحق الثناء وهو الخاص بالأطباء والمسعفين المصريين سواء هؤلاء الذي تطوعوا عبر وزارة الصحة والهلال الأحمر المصري، أو زملاؤهم الذين تطوعوا عبر اتحاد الأطباء العرب وظلوا خمسة أيام بالتمام والكمال معتصمين على بوابة المعبر ينتظرون نتيجة الفاكسات المتبادلة بين وزير الصحة المصري ونظيره الفلسطيني؛ حيث يقول الأول أنه يخشى على سلامتهم بينما هم جميعا موقعين على تحمل مسئولية أنفسهم، ويقول الأخير أرجوكم أرسلوا لنا هذه التخصصات( كان غالب الأطباء المتطوعين متخصصين، أو من أقسام الطوارئ) فالأطباء بالمستشفيات الفلسطينية قليلون يعملون بصورة متواصلة لأيام، وبديهي أن تشخيص الطبيب لحالة حرجة بينما لم ينل هذا الطبيب قسطا من النوم أو الراحة لأيام متوالية ويحيطه القصف الجوي من كل صوب قد يعرض حياة المريض بين يديه للخطر أو يقلل من حسن أدائه أو دقة تشخيصه (وقد أشار طبيبان نرويجيان كانا بغزة لهذه الناحية بالتفصيل في لقاء تلفزيوني مؤخرا) والمدهش ما سمعته من رئيس فريق أطباء وزارة الصحة المصري بمستشفى العريش أيمن الهادي من كون معظم الحالات الفلسطينية التي نقلت لمستشفى العريش تم علاجها الأولي داخل مشافي غزة بأقصى درجات الدقة والكفاءة الطبية من الأطباء الفلسطينيين رغم قلة إمكانياتهم ورغم كل الضغوط المحيطة بهم أثناء الحرب.

كل ما تقدم لا يهدف لغير تلافي الهفوات والحماقات وتخبط الأداء في مواجهة الأزمة كانت متوقعة ولم تنته بعد؛ فقد صمتت الحرب على الجانب الآخر وبدأ المزيد من الجرحى يتوافدون على مصر..وربما ستستمر المساعدات في العبور من مصر لفترة..لازال هناك متسع لإصلاح الخطأ.. ففي الأزمات تتحول هذه الأخطاء خطايا وتزيد من الطين بلة،وغالبا ما تصور إعلاميا بأكثر من تفسير سياسي غالبها لن يرضي نظام القاهرة.

عن جريدة نهضة مصر


S C