تناول في عموده الاسبوعي اليوم د. خالد منتصر ما عنونه بـ"راجى عنايت يدق ناقوس الخطر فاسمعوه" . وقد احتوى العمود بعضا من رسالة / وان شئت دراسة للكاتب "المستقبلي" راجي عنايت، ومنها شبه المسلَّمة التي بدأ بها "لن يحدث تقدم فى مصر بدون إصلاح ثورى فى نظام التعليم" وتوصيفه لحال التعليم بأنه "تعليمنا لم يتجاوز مرحلة المجتمع الصناعى النمطى القديم ولم يدخل بعد عصر المعلومات" مطالبا ايضا لترسية مبدأ المواطنة وقبول الآخر بـ"تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، ويحترم التنوّع الشديد الذى استحدثه تدفّق المعلومات والمعارف فى عقائد البشر وتوجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له وللآخرين" ومؤكدا ما قد نسينا كثيرا من أن "الشهادة مجرد بداية لتخريج مشروع باحث" . ومع تعليقات للقراء عبر موقع الجريدة والفايس بوك، وتساؤل عن قيمة أو جدوى تطوير التعليم دون البنية المجتمعية الثقافية المحيطة وتساؤل آخر عن فعالية تطوير التعليم لانتفاء التراكم المطلوب حدوثه قبل "تغيير جديد للمناهج" مثلا ، تفضل الاستاد راجي عنايت بمدنا بمتن الدراسة كاملا. نرجو من المهتمين بالتعليم - كمدخل للتنمية والتنوير في هذ البلاد قراءتها ونشرها وقطعا مناقشتها والسعي للاستفادة منها. ــــــــــــ
ملفّ التعلـــيم
تعليم جديد لعصر جديد
المفاتيح القديمة، لا تفتح الأبواب الجديدة
عند البحث عن حلول عملية لحل المشاكل الراهنة في مصر، و عن الأسس التي يجب أن تقوم عليها عمليات إعادة البناء في مختلف المجالات، من الطبيعي أن يفشل الأغبياء، و أن يحجم المستفيدون من الأوضاع الحالية و من تناقضاتها، و أن يعجز ذوي الخبرة المحدودة و المعرفة القليلة .. لكن الذي لا يراه الناس معقولا، هو أن يفشل الأذكياء المخلصون !! .
ما هو الجديد في حياة البشر، الذي يقود إلى فشل الأذكياء ؟ .
الجديد هو أن الجنس البشري يمضي إلى حياة تختلف اختلافا تاما عن الحياة التي عرفها على مدى عشرة آلاف سنة ( هي عمر عصر الزراعة )، و حوالي 300 سنة ( هي عمر عصر الصناعة ) .. هذا هو الجديد، غير المسبوق .. نحن نمضي إلى نسق جديد في حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. و إلى قيم و مبادئ و أسس و عقائد جديدة غير التي عرفناها في عصري الزراعة و الصناعة ..
و الأذكياء الذين أحجموا عن اكتشاف هذه الحياة الجديدة، أو عجزوا عن التوصّل إلى فهمها، هم الذين يفشلون .
و يأتي الفشل من اعتماد أولئك الأذكياء على خبراتهم النابعة من حياة البشر في الحضارات الزراعية و الصناعية السابقة، في محاولة التعامل مع حقائق الحياة الجديدة للبشر و هذا أشبه ما يكون بمحاولة الشخص فتح باب بيته الجديد، الذي انتقل إليه حديثا، بمفتاح البيت القديم الذي كان يسكنه ! .. و هو يحاول أن يرجع فشله في فتح الباب إلى أسباب يتعلّل بها، غير السبب الحقيقي الوحيد ! . لا أدري لماذا أشعر أن مئات الخبراء الأذكياء، الذين تضمّهم المؤتمرات السياسية، و نتابع حواراتهم في الإذاعة وعلى شاشـة التلفزيون، يمسكون بأيديهم مجموعة من المفـاتيح القديمة يحاولون بها ـ دون نجاح ـ فتح الأبواب الجديدة للحياة في مجتمع المعلومات
و لكن ... بماذا نبدأ ؟
برصد المستقبل كما هو، أم بالحديث عن أحلامنا و آمالنا ؟ .
المسألة في تطلعنا إلى الغد تكون أشبه ما تكون بموضوع الأرصاد الجوية . هناك فارق بين أن نعتمد على القراءة العلمية لرجال الأرصاد الجوية، بالنسبة لأحوال الطقس غدا، حتّى نستعد لمواجهته بما يلزم، و بين أن نتمنّى أن يجيء
ـ 1 ـ
الطقس لطيفا، أو دافئا، وفقا لمصالحنا . نحن نتابع تقارير الأرصاد لكي نستعد للغد بما يناسبه، سواء أحببنا ما يأتي به أم لا .. و هذا هو حالنا مع التفكير المستقبلي و الرؤية المستقبلية، مع فارق أنّه في الحالة الأخيرة، يكون للأحلام دورها النسبي، في الترتيب المناسب .
منظور عين الطائر
رغم قوّة التغيّرات، و غرابة المسـتجدّات، استطاعت قلة من الريادات المسـتقبلية أن تخرج من قبضة الخريطة المرسومة على المخّ البشري، و المسيطرة على مسار تفكيره، و أن تصل إلى فهم حقيقة و حجم التغيّرات الطارئة، و مداها ..عرفت انعكاساتها على حياتنا الآتية في جمـيع مجالاتها، التكنولوجية و الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية . بفضل طبيعة فكرها الابتكاري، استطاعت هذه القلّة في شرق العالم و غربه، أن ترتفع فوق الإدراك المباشر، لكي ترى أحداث اليوم من منظور عين الطائر، وسط السياق التاريخي للتطوّر البشري .
جوهر هذه الرؤية الثاقبة، قاد إلى نظرة للتاريخ البشري تتجاوز تاريخ الممالك و الحروب، و سير الملوك و الرؤساء، و تقوم على فهم الموجات الحضارية الكبرى، أو الأنماط الأساسية التي تعاقبت على نسق حياة البشر، منذ أن عاشوا معا في جماعات مستقرّة . و كان تركيزهم على ثلاث موجات حضارية كبرى، هي:
* عصر الزراعة .
* عصر الصناعة .
* عصر المعلومات ، الذي ما زلنا نعيش بداياته الأولى .
أهمّ ما في تلك الرؤية المستقبلية، هو اكتشاف أن التكنولوجيا الأساسية، المحددة لنوع العمل السائد في عصر ما، هي ما يحدد لذلك المجتمع معظم أوضاعه الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. و هي التي ترسى أسس القيم و المبادئ و العقائد التي يأخذ بها ذلك المجتمع .
* * *
التعليم على مرّ العصور
من القنص إلى الزراعة
نشأت أول موجة حضاري كبرى عندما انتقل الإنسان من القنص و الرعي، و تعلّم أن يزرع، و ينتظر حتّى يجني ثمار ما زرع .. أي عندما قام المجتمع الزراعي، و الذي استمر على وجه الأرض لأكثر من عشرة آلاف سنة .. ومع كل الاختلافات بين البشر الذين عمّروا مصر و بابل، و الصين و الهند، و و اليونان و أمريكا الجنوبية ..مع كل التباين في العقائد السماوية و غير السماوية التي أخذت بها هذه الشعوب، فإن أسس المجتمع الزراعي ظلّت هي السائدة ..
سنجد نفس الأسرة الكبيرة التي تعمل كوحدة إنتاجية استهلاكية واحدة، و سنجد السيادة الأبوية للأسرة و المجتمع، و ارتباط الإنسان بالطبقة التي ولد لكي يجد نفسه فردا فيها .. سنجد نفس علاقة الإنسان بالأرض التي ولد عليها، و نفس العلاقة بين الحاكم و المحكوم .
كان الطفل في المجتمع الزراعي يشبّ في قرية بطيئة التغيير، مقيما تصوّره للواقع وفقا للصور التي يتلقّاها من
ـ 2 ـ
مصادر محدودة ضعيفة، معلّم القرية أو رجل الدين ( الكتّاب عندنا أخيرا )، أو رأس القرية، و أساسا يتلقّاها من عائلته .. القليل جدا من أهل القرية هو من أتيح له أن يرى مدينة أخرى .. و النتيجة، أن صورة العالم التي يكوّنها الطفل في القرية، كانت محدودة و ضيّقة إلى أبعد حدّ .
الزلزال الكبير ..
ثم حدث الزلزال الكبير في حياة البشر .. مع اختراع الآلة البخارية، و بداية التحوّل من حياة الزراعة إلى حياة الصناعة .
تغيّرت أسس التي قامت عليها المجتمعات الزراعية، و نشأت أسس جديدة نابعة من طبيعة العمل الصناعي ..الأسرة الكبيرة التي عرفها المجتمع الزراعي تحوّلت إلى أسرة صغيرة، من أبوين و ثلاثة أبناء على الأكثر، حتّى يسهل عليها أن تغيّر موقعها وفقا لتغير موقع العمل الصناعي .. و مع ظهور الطاقة الميكانيكية، ثم الكهروميكانيكية، ممّا أتاح الإنتاج على نطاق واسع للغاية، و من ثمّ استهلاك مناظر، ثم قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الإنتاج و الاستهلاك .
كذلك انتزعت من الأسرة الزراعية الكبيرة واجباتها التقليدية، كالتعليم و التمريض و رعاية المسنين و العاجزين، و أوكلت إلى مؤسسات متخصصة تتولاّها . و نتيجة لتعقّد الحياة الجديدة و تضخّم عملية اتخاذ القرار، قام شكل جديد للممارسة السياسية، هو ديموقراطية التمثيل النيابي ,
بالإضافة إلى هذا كلّه، نشأت مبادئ و عقائد اقتضتها الحياة الصناعية، كالتوحيد القياسي أو النمطية، و المركزية، و التركيز الشديد في مناطق الإنتاج الصناعي و الخدمات الملحقة بها، و التزامن الشديد الذي تقتضيه العمليات الصناعية، و التخصص الشديد في العلوم و الإنتاج و الخدمات .
لقد حاول عصر الصناعة أن يحيل البشر إلى آحاد متطابقة، يسهل تشغيلها على خطوط التجميع و في المكاتب، و يمكن دائما التعامل معها و التنبؤ بردود فعلها . و قد نجح في هذا إلى حدّ كبير، رغم تناقضه مع الطبيعة البشرية .
و من المؤسسات التي اعتمدت عليها الحياة الصناعية، المؤسسة التعليمية الجماهيرية، التي أبدعها فكر عصر الصناعة .
المدرسة - المصنع
التعليم الذي عرفناه، و الذي مازال مأخوذا به في كثير من المجتمعات، كان مصمّما لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و طبيعة العمل فيه . فمع خروج معظم العمل من الحقل و البيت، كان من الضروري إعداد الأبناء للعمل في المصنع . و قد تمخّض هذا عن هيكل مركزي آخر من هياكل المجتمع الصناعي، ألا وهو التعليم الجماعي، أو الجماهيري . و أقيمت المدارس على شكل مصانع تنتج التلاميذ . و كانت مهمة التعليم العام الجماعي أن يلقّن التلاميذ أساسيات القراءة و الكتابة و الحساب، و شيئا من التاريخ و الموضوعات الأخرى . على اعتبار أن هذا هو غاية ما يحتاجه الإنسان ليصبح قادرا على نوع و مستوى العمل السائد في المصنع أو المكتب .
لكن خلف هذا المنهج الظاهر، كان هناك منهج خفي أكثر أهمّية .
ذلك المنهج الخفي تضمّن ـ و ما يزال ـ في معظم المجتمعات، ثلاثة دروس هامّة :
ـ 3 ـ
• التدريب على الالتزام بالمواعيد .
• طاعة الرئيس .
• التعوّد على العمل المتكرّر .
فالعمل في المصنع يتطلّب من العمّال أشياء لم يكن يعرفها العامل الزراعي .. يتطلّب عمّالا يصلون إلى عملهم في الوقت المحدّد، خصوصا أولئك الذين يعملون على خطوط التجميع . كما يتطلّب عمّالا يتلقّون التعليمات من رؤسائهم، وفقا للتسلسل الوظيفي، فيطيعونها دون تساؤل أو استفسار . و يحتاج إلى رجال و نساء على استعداد للعمل كعبيد للآلة أو المكتب، يقومون بالعمل المتكرّر، كلّ يوم، على مدار حياتهم، دون احتجاج أو تذمّر .
التعليم النمطي الجماهيري
و هكذا، شاع التعليم النمطي الجماهيري، الذي عرفناه، و ما زلنا نأخذ به حتّى اليوم، و الذي يستهدف :
• تعويد التلاميذ على العمل المتكرّر، كوسيلة للاستيعاب . و تقسيم المعارف إلى جزئيات متفرّقة، يتلقّاها التلميذ واحدة بعد الأخرى، دون أن يطلب منه ـ أو يتاح له ـ الربط بينها، للتوصّل إلى الكلّيات . و خضوع التلميذ لآلية تلقّي المعلومات، و رفض أيّ محاولة من جانبه للخروج عن هذه الآلية، أو ابتكار سبيل آخر للوصول إلى المعلومات .
• تعويد التلميذ على طاعة الرؤساء، ابتداء من زميله مسئول الفصل ( الألفة )، إلى أستاذه و معلمه، إلى ناظر المدرسة .. و تعويده على تنفيذ الأوامر الصادرة إليه، دون السماح له بمناقشتها .
• تعويد التلاميذ على الانضباط زمنيا، من خلال برنامج العمل اليومي، الذي يبدأ بجرس، ثمّ حصّة، ثمّ جرس، ثم راحة .. و هكذا حتّى نهاية اليوم الدراسي . هذا، بالإضافة إلى التوقيتات العامة، التي ترسّخ النمطية عند التلاميذ، مثل طابور الصباح، و تحيّة العلم، و النشيد الجماعي .
المخطط الخفي
ظل هذا هو التعليم الأمثل على امتداد ما يزيد عن قرنين من عمر عصر الصناعة . و إذا كان هذا التعليم قد شاع في المجتمعات الصناعية لفائدته في إعداد العمالة اللازمة للعمل الصناعي، فإنّه قد شاع عندنا، و عند غيرنا من الدول التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية، نتيجة لرغبة المستعمر في فرض نظمه على الشعوب التي يستعمرها، حتّى يسهل عليه تحقيق الفائدة الأكبر من استعماره .
عندنا، و في الكثير من الدول العربية، قامت خبرات رجال التعليم على هذا النوع من التعليم، باعتباره الشكل الطبيعي المقبول للعملية التعليمية . و لا أعتقد أن أحد من أقطاب التعليم في مصر كان يدرك الأهداف الحقيقية للتعليم الجماهيري الذي فرضه عصر الصناعة . و إنصافا لهم، نقول أن الكثير من كبار رجال التعليم في الدول الصناعية المتطوّرة، لم يكونوا يدركون المخطط الخفي الذي قام عليه ذلك التعليم .
كالعادة، جرى اكتشاف هذا، عندما تلاحقت موجات ثورة المعلومات، في النصف الثاني من القرن الماضي . لقد اكتشـف المفكّرون و الخبراء أشياء كثيرة .. اكتشـفوا أن النظم الإدارية لعصر الصناعـة لم تعد نافعة، و كذلك نظـام
ـ 4 ـ
الديموقراطية النيابية، و الاقتصاد الصناعي بشقيه الاشتراكي و الرأسمالي، و التعليم النمطي الجماهيري، و الإعلام الجماهيري .. اكتشفوا ذلك عند مراقبة تدهور الأداء المتواصل للأنظمة التي كانت تنجح دائما، و الهبوط الذي لا يتوقّف في النمو، ممّا يقتضي سرعة البحث عن سرّ هذا التحوّل .
* * *
حياة جديدة للبشر
بفضل مجموعة من المفكرين و العلماء ـ من الشرق و الغرب ـ أمكن الوصول إلى رؤية شاملة لمستقبل حياة جديدة للبشر، أطلق عليه في أوّل الأمر مجتمع ما بعد الصناعة . لقد أيقن هؤلاء أننا نمضي إلى نظام جديد للحياة، يختلف كثيرا عن نظامي الحياة الزراعية و الصناعية . و اكتشفوا أن النظم التي نجحت في عصر الصناعة، لن يكتب لها النجاح في النظام الجديد الذي يقوم على أسس و مبادئ تختلف كثيرا عن نظيراتها في عصر الصناعة .
من واقع دراسة المجتمع الجديد، اتّفق الجميع على تسميته بمجتمع المعلومات، باعتبار أن المعلومات هي رأس المال الأهم فيه . و دون الدخول هنا في العوامل التي قادت إلى انقضاء عصر الصناعة، و سيادة عصر المعلومات، سنركّز على بعض التحوّلات الأساسية، التي تتيح لنا التعرّف على أسس التعليم الجديد، الذي يمليه واقع مجتمع المعلومات :
(1) من النمطية و الجماهيرية إلى التنوّع و التباين و احترام الاختلاف، (2) من المركزية إلى اللامركزية و النظام الشبكي، (3) من العمل الجسدي إلى العمل العقلي و المعرفي، (4) من الديموقراطية النيابية إلى ديموقراطية المشاركة، (5) من التزامن المحكم، إلى الزمن المتكيّف، (6) من التعليم النمطي، إلى التعليم الشخصي و الذاتي المستمر، (7) من التخطيط قصير المدى، إلى الرؤية المستقبلية، (8) من التخصّص الضيّق، إلى المعرفة الشاملة، (9) من السعي إلى الضخامة و النهايات العظمى، إلى شعار الصغير أجمل .
لكي نتعرّف على النظم التعليمية الجديدة في مجتمع المعلومات، يجب أن نحدد مواصفات الإنسان المنسجم مع الحياة في عصر المعلومات، و الذي يستطيع الاستفادة من كلّ ما تتيحه الحياة في مجتمع المعلومات، ثم نبني على ذلك الأسس الجديدة للنظم التعليمية في هذا المجتمع .
عدم جدوى الإصلاح ..
بداية يجب أن نفرّق بين أمرين : إصلاح التعليم الحالي، و العودة به إلى المستوى الذي كان عليه منذ نصف قرن مثلا، و بين إعادة بناء النظم التعليمية عندنا، على أساس احتياجات مجتمع المعلومات الذي يسود العالم بأكمله يوما بعد يوم . الإصلاح، هو أضعف الإيمان، لأنه لا يغني عن إعادة البناء على الأسس الجديدة، و الذي هو السبيل إلى حمايتنا من مواجهة كابوس البطالة الشاملة بعد عقد أو عقدين من الزمان .
كل ما نسمعه من محاولات إصلاح التعليم، من بناء المدارس الجديدة، و الإقلال من عدد التلاميذ في الفصل، و الإرتفاع بمستوى المعلّم، و القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية، و تحسين مستوى الكتاب المدرسي، و وضع معايير محددة لجـودة التعليم.. يدخل تحت بند إصلاح نظام التعـليم الذي استحدثه صالح الاقتصاد الصناعي . أي أننا
ـ 5 ـ
نسعى إلى إصلاح نظام تعليمي لا ينفع في إعداد أجيال تعيش و تعمل في عصر المعلومات .
هدف التعليم هو: إعداد الإنسان المتوافق مع عصره . لهذا، كان من الضروري أن نعرف طبيعة العصر الذي نمضي إليه، و أن نتعرّف على مؤشراته، حتّى نستطيع أن نستنبط نوع النظام التعليمي الذي يفيد في إعداد ذلك الإنسان المتوافق معه .
إنسان مجتمع المعلومات
دون الدخول في تفاصيل يطول شرحها، يكفينا هنا أن نطرح بعض مؤشرات التحوّل الأساسية الراهنة، والتي تساعدنا على رسم صورة إنسان مجتمع المعلومات، و التي-كما سنرى- تختلف اختلافا كبيرا عن صورة إنسان عصر الصناعة التي صاغتها عقائده و مبادئه .
من أهم مؤشرات التحوّل الحالية، تسارع تدفّق المعلومات و المعارف و التكنولوجيات بمعدّلات غير مسبوقة . ثم مؤشر سيادة العمل العقلى و تراجع العمالة العضلية، التي كانت أساس عمالة الصناعة . وكذلك انقضاء النمطية أو الجماهيرية أو القولبة التي فرضتها الحياة الصناعية على كل شيْ، والاندفاع نحو التنوّع و التباين و الاختلاف في كل شيْ أيضا . و من المؤشرات الهامة، فقدان البيروقراطية لجدواها، كأساس رئيسي لتنظيم العمل و البشر، و ظهور أشكال تنظيمية جديدة، تتوافق مع أسلوب الحياة الجديدة التي يوفّرها مجتمع المعلومات .
و سنرى فيما يلي، كيف ترسم هذه المؤشرات صورة الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، والقادر على العمل المنتج الفعّال فيه .
متفــّرد .. غير نمطي
نجاح النمطية و القولبة و التوحيد القياسي في عصر الصناعة، قاد إلى محاولة تطبيق هذه القولبة على البشر، رغم تناقضها مع الطبيعة البشرية . و لكن نتيجة لتدفّق المعلومات و المعارف، تباين البشر واختلفت مشاربهم، و تنوعت مطالبهم من الحياة .
فمجتمع المعلومات يستفيد أكثر من الإنسان الحريص على ذاتيته، المعتزّ برؤيته الخاصّة، الذي لا يرضى أن يكون صورة مكرّرة من الآخرين . هو الذي ينفتح على المعارف و المعلومات، ليختار مكوّنات ثقافته . و هو القادر على التعامل مع التكنولوجيات الإلكترونية المتطوّرة، التي تتيح له تجدّد معارفه .
مفكّر .. ناقد .. مبتكر
نتيجة للتغيّرات الجذرية المتسارعة التي يمرّ بها العالم، يكون على إنسان المعلومات أن يكون قادرا على النظرة الناقدة، لكل ما استقر من فروض و آراء، ممارسا للتفكير الناقد، الذي يستدعي: التعرّف على الافتراضات و المسلّمات التي تقوم عليها الأفكار، لكي يمتحن صلاحيتها في الظروف المستجدّة . و يكتشف السياق الذي خرجت منه، و مدى مصداقية ذلك السياق الحالي . و يكون قادرا على استكشاف بدائل جديدة لما يسود حياته .
و نتيجة لنفس هذه التغيّرات، و انقضاء جدوى الاعتماد على السوابق، عليه أن يكون قادرا على النظر إلى الأشياء بعين جديدة، ممارسـا للابتكار، خاصة بعد انكماش العمل اليدوي الروتيني المتكرر، و إيكاله إلى الكمبيوتر و الروبوت،
ـ 6 ـ
و شيوع العمل العقلي في جميع المجالات .
قادر على التعليم الذاتي الدائم
المعارف في حالة تجدّد دائم . و إنسان مجتمع المعلومات لا يقف تحصيله للمعارف عند حد الشهادة التي حصل عليها . و في هذا يقال أن شهادة الطبيب أو المهندس، سيسجّل عليها في المستقبل تاريخ انتهاء صلاحيّتها، فلا يتاح له أن يمارس مهنته إلاّ إذا واصل التحصيل طوال سنوات عمله . و بهذا، تصبح الحياة سلسلة من التعلم و التدريب و إعادة التدريب . و هو يعتمد على ذاته في هذا، مستفيدا من تطوّر التكنولوجيات المعلوماتية و تكنولوجيات الاتّصال .
إيجــابي .. متعـــاون
البيروقراطـية، أو التنظيم الهرمي لتسلسل الرئاسات، فقد مصداقيته، و أصبح السبيل إلى الفشل والمشاكل المتوالدة . و بدأ ظهور أشكال تنظيمية جديدة للعمل، تعتمد على هبوط نسبة كبيرة من القرارات التي كانت تنفرد بها القيادات، إلى الوحدات القاعدية، شبه المستقلّة .
و لهذا، يكون إنسان المستقبل إيجابيا، قادرا على حلّ المشاكل، و على اتّخاذ القرارات . و في إطار الندّية التي يفرضها التنظيم الجديد للعمل، يجب أن يكون إنسان المعلومات قادرا على التعاون مع أفراد مجموعته، و مع المجموعات الأخرى داخل المؤسسة و خارجها .
تعليم مجتمع المعلومات
من واقع مواصفات إنسان مجتمع المعلومات، يمكننا أن نتصوّر إطار النظم التعليمية الجديدة، المتوافقة مع احتياجات و اقتصاد هذا المجتمع .
وفقا لخصائص إنسان عصر المعلومات التي أوردناها ، يمكننا أن نستنبط طبيعة التعليم التي تناسب هذا العصر .. و هذا الإنسان .. و التي تشير إلى:
تعليم يساعد على التفرّد، و يناهض القولبة، و محاولة جعل الأفراد آحادا متراصة متشابهة .
تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير و الابتكار، و يحارب التبعية النمطية و التلقين .
تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات و المعارف، بلا قيود أو وصاية .
تعليم يناهض كل ما هو جماهيري، من رواسب نظم عصر الصناعة، و يحترم الفروق بين الأفراد .
تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، و يحترم التنوّع الشديد الذي استحدثه تدفّق المعلومات و المعارف في عقائد البشر و توجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له و للآخرين .
مع دخول الكمبيوتر، و الإدارة الرقمية، و الروبوت، إلى المصنع و المكتب، و قيامها بجميع الأعمال العضلية الروتينية التي كان يقوم بها إنسان عصر الصناعة، و التي لم تكن تحتاج إلاّ إلى القليل من التفكير و الدراسة .. قيامها بذلك بطريقة أفضل و أكمل، دون تدخّل من عناصر الضعف البشري .. لم يبق للإنسان سوى العمل العقلي الابتكاري .. لهذا،اقتضى الأمر الاعتماد على نظام تعليمية جديدة، تختلف كثيرا عمّا كنّا و ما زلنا نأخذ به، من بين هذه الاختلافات :
ـ 7 ـ
( 1 ) من التلقين، إلى التفكير و الابتكار :
الكمبيوتر و الروبوت نجح في تولّي معظم الأعمال الروتينية في المصنع و المكتب، و بشكل متفوّق عن الأداء البشري، فلم يبق للبشر سوى العمل العقـلي أو المعـرفي، الذي يقتضي التفكـير، و القدرة على حلّ المشاكل، بالبحث عن بدائل الحلول، و اختيار الحل الأوفق للظروف، ثم تطبيقه و متابعة أدائه . و هذا هو التحوّل الأساسي في النظام التعليمي المناسب لعصر المعلومات . من تعليم يقف عند حد تلقين المعلومات المحدودة، إلى تعليم يشجّع على التفكير، و البحث عن الحلول، و يحض على الابتكار و الإبداع . نحن ننتقل من تعليم عصر الصناعة الذي كان يعمد إلى تلقين التلاميذ، و حشو رؤوسهم بشتات المعلومات، و بعض التقنيات، إلى تعليم يستهدف خلق المعارف و التدريب المتواصل .
( 2 ) بيئة تعليمية مفتوحة :
ستتحوّل البيئة التعليمية المغلقة الحالية، إلى بيئة تعليمية مفتوحة، تعتمد على شبكات المعرفة الإلكترونية، التي تعطي أهمية أكبر للقدرات الشخصية . البيئة التعليمية الجديدة، تنهي احتكار المدرسة للعملية التعليمية، و تفتح الباب أمام ممارسة التعليم في البيوت، و في المؤسسات الاقتصادية التي ستتكفّل بجانب منه .
( 3 ) من التعليم النمطي، إلى الشخصي :
النظام التقليدي النمطي الجماهيري، النابع من عقلية و احتياجات عصر الصناعة، يحل محلّه نظام جديد يقوم على أساس اعتبار قدرة الفرد و اختياراته . و هذا يعني أنّه في مكان نظام التعليم الحالي، الذي يجري تقسيمه على أساس الأعمار، يقوم نظام جديد يسمح لقدرات الأفراد بالتقدّم إلى مستويات متقدّمة، بصرف النظر عن العمر .
( 4 ) التعليم على مدى الحياة :
التعـليم العام لعصر الصناعة يقوم على تعليم إجباري، بالإضافة إلى فرص قليلة للتعليم الأعلى و الحرفي . و كان التعليم ينتهي عادة بالحصول على شهادة إتمام الدراسة، التي تؤهّل لدخول الوظائف و مجالات العمل .
مع تسارع المعلومات و المعارف، و تغيّر النظريات، و هبوط علوم و صعود علوم جديدة، تنشأ ضرورة اعتماد الدارس، أيا كان عمره، على التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة، لمتابعة ما يحدث بشكل عام، و في فرع تخصّصه بشكل خاص . و هذا يجعل تعليم عصر المعلومات عملية ممتدة على مدى حياة الفرد .
( 5 ) التعليم الذاتي :
يساعد على التعليم الدائم المتواصل، مبدأ التعليم الذاتي الذي يأخذ به عصر المعلومات . و هو ما يوفّره الكمبيوتر، و غير ذلك من التكنولوجيات الإلكترونية . لقد أصبح بإمكان الفرد أن يعلّم نفسه، على مدى مراحل عمره، اعتمادا على البرامج التعليمية الخاصّة بالكمبيوتر، الذي يقوم باختبار الدارس، عند مراحل معينة، للتثبّت من استيعابه، تمهيدا لإعادة الدرس، أو الانتقال إلى الدرس التالي .
ما هي المشكلة ؟
ما هي الصعوبة التي تواجهنا عند محاولتنا تحقيق التحوّل في تعليمنا، من التلقين و النقل، إلى التفكير و العقل ؟
ـ 8 ـ
تكمن الصعوبة في أن حياتنا كلّها تمضي في مصر وفق اعتماد النقل و التلقين، من المهد إلى اللحد، و كراهية التفكير الناقد الذي قد يجترئ على الثوابت، في البيت و الشارع و المدرسة و الجامعة و الحكومة بكل أجهزتها .. و كذلك ضعف قدراتنا في مجال التفكير الابتكاري، الذي يصبح في مجتمع المعلومات ممارسة جماهيرية .
و لكي نفهم أبعاد هذه المشكلة الكبرى، التي يعجز عن إدراكها معظم من يخططون للتعليم.. علينا أن نفهم أبعاد التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري، الذي نقول بحتميتهما في مرحلة الانتقال من نمط الحياة الصناعية، إلى نمط الحياة المعرفية .
و لا بد هنا من التنبيه إلى أن هذا التحول لن يتم في هدوء .. و أنه سيلقى مقاومة مستميتة من جميع العناصر الحريصة على بقاء الأوضاع الحالية، إمّا بدافع التخلّف و الاستناد إلى مرجعيات تاريخية منقضية، أو بدافع الاحتفاظ بالسلطات و المنافع الحالية، أو بمجرّد العجز عن الرؤية الابتكارية .
التفكير الناقـد ..
في اختصار شديد، سأطرح هنا أبعاد التفكير الناقد، حتّى نرى معا إذا كان من الممكن تعميمه، في تعليمنا أولا، ثم في جميع مجالات حياتنا بعد ذلك
في زمن التغيّرات الجذرية الشاملة، كالتي يمرّ بها العالم منذ منتصف القرن الماضي، و التي تبدّل ما استقرّ من شئون حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. في هذا الزمن، نفقد القدرة على الاستناد إلى الخبرات السابقة، ونحتاج إلى إبداء حرص شديد في تناولنا للأفكار و المعاني و الأوضاع، اعتمادا على حصيلتنا السابقة، و دون اختبار جديد لمدى مصداقية ما أخذنا به، و ما زلنا نأخذ به .
التفكير الناقد، ينصبّ أساسا على : امتحان الافتراضات التي تقوم عليها أفكارنا و نظرياتنا وعقائدنا.. ثم التعرّف على السياق الذي خرجت منه تلك الأفكار و النظريات و العقائد، لنرى إذا ما كان ذلك السياق متفق مع سياق حياتنا الحالي، و المستقبلي .. و من عناصر التفكير الناقد :
( 1 ) التعرّف على الافتراضات و تحدّيها :
من أهم أسس التفكير الناقد، محاولة التعرّف على الافتراضات التي يقوم عليها تفكيرنا، و تتأسس عليها ضروب سلوكنا .. و ذلك تمهيدا لامتحانها و التحقق من مدى سلامتها و اتفاقها مع الواقع المعاصر . نحن هنا نتساءل بالنسبة لكل ما نأخذه مأخذ التسليم، و نعتبره من الأمور البديهية، سواء في تنظيم العمل، أو في علاقاتنا مع الآخرين، أو في الأساس الذي يقوم عليه التزامنا السياسي و العقائدي .
( 2 ) الانتباه إلى السياق الذي تخرج منه الافتراضات :
مع اكتشاف الافتراضات التي تحكم عاداتنا، و سلوكنا، و مداركنا، و فهمنا للأمور، و تفسيرنا للعالم من حولنا .. مع حدوث ذلك نصبح أكثر إدراكا لتأثير السياق الذي تنبع منه تلك الافتراضات ..و ممارس التفكير الناقد، يعلم أن الممارسات و التصرفات و الترتيبات الاجتماعية لا تكون بلا سياق يحكمها .
ـ 9 ـ
( 3 ) تصوّر و امتحان البدائل :
من الأمور الأساسية في التفكير الناقد، القدرة على تخيّل الاحتمالات، و امتحان البدائل المختلفة للطرق الحالية التي يلتزم بها الفرد في تفكيره و في حياته . عندما يتحقق الفرد من أن العديد من أفكاره و تصرفاته تنبع من افتراضات لا تناسب الحياة الراهنة، ينشغل باكتشاف و امتحان طرق جديدة للتفكير و التصرّف، واعيا بأهمية أثر السياق في تشكيل كل ما يعتبره عاديا و طبيعيا .
( 4 ) التشكّك التأمّلي :
عندما نكتشف بدائل جديدة لما رسخ في تفكيرنا و سلوكنا، نصبح أكثر تشككا في كلّ ما اعتدنا أن نطلق عليه تعبير " الحقيقة النهائية "، أو " التفسير الكامل " . و هذا النوع من التشكك يطلق عليه اسم التشكك التأمّلي .. و هو لا يعني التشكك من أجل الرفض، و لكن التشكك من أجل التأمّل و التثبّت من المصداقية . ممارس التشكك التأمّلي، يدرك أن التمسّك بممارسة ما، أو الاعتماد على بنية ما، لزمن طويل، لا يعني أنها الأنسب لجميع الأزمان، و بالتحديد للحظة الراهنة . كما أن مجرّد قبول الفكرة من أعداد كبيرة، لا يعفينا من امتحانها على أرض الواقع الراهن، ثم قبولها أو رفضها و استبدالها، وفقا لما يتمخّض عنه ذلك الامتحان .
الابتكار .. ضرورة عند اقتحام المستقبل
و قد يكون من المفيد أن نحدّد بإيجاز ثماني نقاط أساسية، تتّصل بالتفكير الابتكاري الذي ندعو إلى الأخذ به في مواجهة المشاكل الناشئة عن التغيير الدائم الذي نعيشه، و عند السعي إلى بناء الهياكل الجديدة في حياتنا، التي يفرضها دخولنا إلى مجتمع المعلومات .
(1) الابتكار الذي نعنيه .
الابتكار الذي نعنيه، و الذي يتّصل بالتعامل مع المستقبل، له معناه المحدّد الذي يحسن أن نتّفق عليه بداية، و الذي يختلف عن الاستخدام السائد لكلمتي "الابتكار" و "الإبداع" في مجال الإنتاج الأدبي والفني .
الابتكار الذي نتكلّم عنه يتضمّن : الوصول إلى الجديد غير المسبوق، الذي تكون له قيمته و فائدته، والذي ينضوي على تغيير للمفاهيم و المدارك .
بهذا، يخرج عن نطاق بحثنا، العمل الفوضوي أو التخريبي، الذي يأتي بأوضاع جديدة غير مسبوقة، لكنّها غير ذات قيمة، و لا يحدث تغييرا في المفاهيم و المدارك .
كذلك يخرج عنه، الإنتاج الفنّي و الأدبي، الذي يأتي عادة بغير المسبوق، و الذي تكون له فائدته وقيمته، لكنّه في أغلب الحالات لا يحدث تغييرا في المفاهيم و المدارك ( و إن كان بعض الإنتاج الفني والأدبي تتحقّق فيه خاصّية تغيير المفاهيم، مثال ذلك بيكاسو و سيد درويش ) .
(2) الابتكار و التغيّرات الجذرية الحالية .
الثابت أنّنا نمضي إلى شكل جديد لحياة البشر، يختلف كثيرا عن أشكال الحياة التي عرفناها طوال عصر الزراعة
الذي امتدّ إلى عشرة آلاف سنة، و من بعده عصر الصناعة الذي استمر لما يزيد عن قرنين من الزمان .
ـ 10 ـ
عند التعامل مع الواقع الجديد الذي تفرضه التغيّرات الحالية و القادمة، لن يجدينا الاعتماد على الأفكار أو النظريات أو المبادئ أو العقائد النابعة من عصري الزراعة و الصناعة . لن تفيدنا الخبرات التقليدية، و السوابق المجرّبة، لأنّها لا تصلح للتعامل مع نظام الحياة الجديد الذي يسود عصر المعلومات.
هنا، تتجلّى أهمّية الاعتماد على التفكير الابتكاري : في فهم حقيقـة ما هو حادث، و في محـاولة التصدّي لحل المشاكل المتفاقمة و غير المسبوقة، ثم أخيرا عند التفكير في عمليات إعادة البناء الشاملة في جميع المجالات .
(3)الابتكار، من الصفوة إلى الممارسة العامّة .
العمل في عصر الزراعة، و الصناعة أيضا، كان عملا بسيطا، له طبيعة روتينية عضلية، لا يقتضي الكثير من التفكير، و لا يحتاج من العامل في الحقل أو المكتب أو المصنع أن يبتكر . لذلك، كان الابتكار من عمل الصفوة أو النخبة المتميّزة، عند المستويات العليا من هرم التسلسل الوظيفي .
التطوّرات التكنولوجية الحالية (الكمبيوتر و الروبوت) سحبت من مجالات العمل كلّ ما هو روتيني وعضلي، فسادت الحاجة إلى العمالة العقلية أو المعرفية .
العامل العقلي في مجتمع المعلومات، يفكّر و يتصدّى لحل المشكلات المتّصلة بعمله . و خلال بحثه عن الحل المناسب يكون عليه أن يبتكر . و هكذا، يتحوّل الابتكار من تخصّص للصفوة، إلى ممارسة عامة يشارك فيها الجميع .
(4)الذكاء .. و الابتكار .
من بين الأوهام الشائعة عن الابتكار أنّه صنعة الأذكياء فقط . و من ثم يكون على أصحاب معامل الذكاء المتوسّط أو المنخفض ألاّ يحاولوا ممارسة التفكير الابتكاري . و حقيقة الأمر، أنّه لا يوجد ارتباط طردي بين الذكاء و الابتكار . بل أن أصحاب معاملات الذكاء العالية غالبا ما يحجمون عن خوض تجربة التأمّل و التخمين و النطق بأفكار جديدة قد توصف بأنّها طائشة . الذكاء إمكانية من إمكانيات العقل البشري، تعتمد على نشاط بعض الأنزيمات، التي تسمح بردود فعل عقلية أسرع، و بمعدّل أسرع في الرصد .
العلاقة بين الذكاء و الابتكار، كالعلاقة بين السيارة و سائقها . و السيارة القوية تفقد تميّزها مع السائق غير المدرّب !. كما أنّه ليس من الضروري أن يكون الشخص متميّز الذكاء لكي يمارس التفكير الابتكاري .
(5)العقل البشري ليس مبتكرا بطبيعته .
لكي نفهم هذا، يجب أن نفهم طبيعة عمل المخ، كنظام معلوماتي ذاتي الترتيب . المخ مصمّم بحيث يقيم نماذج و أنماطا للعالم المحيط بنا، ثم يلتزم بعد ذلك بهذه النماذج و الأنماط .. هكذا يتم الإدراك عادة عند الإنسان .
ولو أن الأمر سار على غير ذلك، لأصبحت الحياة مستحيلة . المخّ البشري يستهدف جعلنا قادريـن على البقاء، و مواجهة الحياة في كلّ لحظة، و لا يستهدف أن نكون ابتكاريين .و من هنا تجئ أهمية التدرب المتعمّد على الابتكار، و الاعتماد على آليّات خاصة للتفكير الابتكاري .
(6)آليّات الخروج من خريطة العقل التقليدية .
ما دام العقل البشري ليس ابتكاريا بطبيعته، نضطر إلى البحث عن آليّــات أو حيل للفكاك من التخطيـط التقليدي
ـ 11 ـ
المحفور فيه . و من بين الآليّات الشائعة، ما يعرف باسم "العصف الذهني"، و التي تعتمد على إطلاق سيل من الأفكار الغريبة، و ربّما المجنونة، على أمل أن يصيب أحدها الهدف .
إلاّ أن الذي يحدث في مجال الابتكار يختلف عن هذا تماما . فالعصف الذهني، يفتقد ما يجب تحقّقه من قصد و تعمّد . التعمّد ـ في التفكير الابتكاري ـ يتيح للفرد أن يخرج عن المسالك التقليدية في عقله، من أجل اكتشاف مسالك جديدة، أكثر نفعا في التعامل مع الواقع الجديد .
* * *
ملاحظات ضرورية
يجدر بنا ، كلّما فكّرنا في إعادة بناء جانب من جوانب حياتنا، أن نتّفق على بعض ضوابط التفكير :
أولا : في زمن الثبات النسبي أو التغيرات المحدودة، كالتي تحدث خلال سيادة مبادئ الصناعة مثلا، يكون من الممكن التفكير في إصلاح أو إعادة بناء أي مجال من مجالات حياتنا، دون الالتفاف إلى ما يجري في المجالات الأخرى، باعتبار خضوع مختلف مجالات الحياة لنفس المبادئ و العقائد الواضحة للصناعة .. فيمكنا إصلاح التعليم أو إعادة بناء أوضاعه وفقا للأسس السائدة، دون خوف من تناقض ذلك مع صالح الاقتصاد الصناعي .
ثانيا : لكن في زمن التغيرات الجذرية المتسارعة، كالتي يمر بها البشر حاليا، في انتقالهم من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، و قبل أن تستقرّ العلاقات النسبية بين مختلف مجالات الحياة، لا يجوز لنا أن نفكّر في إعادة بناء التعليم ـ مثلا ـ دون أن نرى أثر ذلك على باقي مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، من خلال إرسائنا للرؤية المستقبلية لمصر، اعتمادا على أمرين أساسيين :
( 1 ) رؤية مستقبلية شاملة لمبادئ و أسس مجتمع المعلومات، أي الهدف الذي نسعى الوصول إليه .
( 2 ) الخريطة الحقيقية الأمينة للواقع المصري الراهن، أي الأرض التي ننطلق منها . و هذا يعني واقع الإنسان المصري الفعلي، على سلّم تتابع الموجات الحضارية، من زراعة إلى صناعة إلى معلومات . أي نسبة سيادة العقلية الزراعية، إلى شيوع العقلية الصناعية، إلى مدى اقترابنا من العقلية المعلوماتية . ( و ما نطلق عليه العقلية، ينبع من مدى سيادة تكنولوجيات كل عصر من هذه العصور ) .
ثالثا :عندما تتوفّر هذه القاعدة المعرفية، يمكن الانتقال إلى الاستراتيجية العامة لإعادة البناء في مصر، التي تنبع منها مختلف الخطط النوعية طويلة المدى و قصيرة المدى، و تتحدد أولويات الحركة و التطبيق .
( لكي يكون هذا أكثر وضوحا، نقول ـ على سبيل المثال ـ أنّه لو بقي التعليم المصري على حاله الراهن، و في نفس وقت تحرّكنا اقتصاديا للعمل وفق مقتضيات عصر المعلومات، فستكون النتيجة بطالة شاملة، لأننا سنخرّج عمالة عضلية، كانت قد تصلح للحياة في المجتمع الصناعي، و غير مطلوبة لمجتمع المعلومات، بينما نفتقر إلى العمالة العقلية الابتكارية التي يطلبها العمل في عصر المعلومات .. و العكس صحيح . لو بدأنا إعادة بناء التعليم على أسس العمالة التي يحتاجها مجتمع المعلومات، دون أن نعيد بناء اقتصادنا في نفس الوقت، سيقود ذلك أى بطالة معكوسة ) .
ـ 12 ـ
رابعا : عندما نتكلّم عن إعادة بناء التعلـيم، أو أي شيء آخـر ، يجب أن نتذكّر أهمية الفهم الجيد لقوانيـن ومبادئ
و عقائد المجتمع الذي تمضي إليه البشرية، ذلك الفهم الذي تنبع منه الرؤية المستقبلية الشاملة، و لا نعمد إلى الغرق في الأحلام و الأماني و تصورات المدن الفاضلة .. فالثورة الصناعية، و احتياجات اقتصادها، هو الذي وضع حدّا للعبودية و الرقّ، و عملية شراء الإنسان لأخيه الإنسان، و ليس أحلام البشر أو ثورة سبارتاكوس ..
خامسا : مواصفات التعليم الذي يساعد على بناء إنسان عصر المعلومات، لا يتحقّق بالشكل المناسب ما لم ندعمه أساسا بأمرين :
( 1 ) إعلام مختلف عن الإعلام الجماهيري الذي ورثناه عن عصر الصناعة، يتناسب مع إنسان يتحوّل من النقل إلى إعمال العقل، و من الانسياق و الانقياد إلى التفكير الناقد و الابتكاري .. إنسان الكمبيوتر و الانترنيت، الذي يعتزّ باختلافه عن الآخرين، و يستطيع أن يصنع الدوائر التي ينشط من خلالها .
( 2 ) ممارسة سياسية، تتيح للفرد أن يشارك في اتخاذ القرار، بنفسه دون أن ينيب عنه أحد، تتضمّن هبوطا متدرّجا في مسئولية اتخاذ القرار، من القمّة إلى القاعدة . و رفع القيود عن نشاط المجتمع المدني، الذي يعتبر خير تدريب على ديموقراطية المشاركة .
* * *
من كلّ ما سبق، يتّضح لنا إن التصدّي لإعادة بناء التعليم في مصر، يتجاوز قدرات وزراء التعليم، و رجال الوزارة، و العاملين في حقل التعليم .. و أيضا يتجاوز كل ما يصدر عن الأحزاب المصرية، و بصفة خاصّة ما يصدر عن أمانة السياسات بالحزب الوطني .. و يتجاوز اجتهادات الكتّاب في الجرائد و المجلات، و على شاشات التلفزيون،.. لمن لا يعرف لماذا ؟ .. عليه أن يقرأ هذه الصفحات من جديد ..
هلّ بلّغـت .. اللهم فاشـهد ..
راجي عنايــت
القاهرة ـ يونيو 2008
ـ 13 ـ
التعلــيم: بين الزراعة و الصناعة و المعلومات
مجتمع الزراعة | مجتمع الصناعة | مجتمع المعلومات | |
مصــــادر المعلومــات و المعـارف | الأســــــرة، و رجل الديــن ( الكـــتّاب ) | المدرسة العامّة الإجبارية، و الإعلام الجماهيري | بيئة تعليمية مفتوحة ( كمبيوتر+إنترنيت ) |
المــــدى الزمنـــي | في بدايــات الطفولــــة و الصــــبا | زمن التعليم الإجباري و ما يضيفه الإعلام الجماهيري النمطي | على مــدى الحياة و الشهادات عليها تاريخ صلاحــية |
نوعيةالتعلـيم | مبدئـــي إختيــاري محـــدود | إلزامي، تلقيني، ما يكفي للقيام بالعمل العضلي البسيط في المصنع و المكتب | شخصي و ذاتي و غير نمطي، إبتــــكاري، خالق للمعرفة |
هــــدف التعلــــيم | معلومات عامّة بسيطة و خـــبرات حرفيّة في الحياة الزراعــية | التدريب على العمل الروتيني و على طاعة الأوامر، و احترام تسلسل الرئاســات | إعمال العقل، و ممارسة التفكير الناقـــد، و التفكير الابتكاري و الاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية |
راجي عنايــت