أميرة الطحاوي
تمتليء صفحات الجرائد، كذا المواقع الإخبارية،
في مصر هذه الأيام بتقارير عن "طلعت شبيب" مقدمة إياه باعتباره بائعا
جوالا، وأحيانا "أرزقي" من الصعيد جنوب البلاد، وبطرف خفي تضيف بعض
الصحف إنه "يبيع السلع المقلدة" باعتبار إن السوق المصري لا يُتداول فيه
سوى الماركات الأصلية!. وتسأل إحدى الصحف الأمنجية (أمنجية بامتياز؛ لكي نكون
دقيقين) عما إذا كان شبيب "تاجر مخدرات"، فيما يقول تقرير عجيب إن
المدعو شبيب قد سب "السيسي" و يا له من جرم (يسب المصريون جلَّ حكامهم
أحياء، رغم الخضوع العملي لهم، ثم يبكونهم لاحقا، ويتحسرون على سابق أيامهم). ما حدث
حسب إحدى الروايات إن ضابط شرطة اعتدى على شبيب صافعا إياه على وجهه، فرد الأخير
صفعةً بصفعة، في الصعيد يفعلون هذا، الإهانة تستوجب ردها بالكم والكيف وفي التو وبالمكان
الذي وقعت فيه نفسه، وقيل أن شبيب رفض ركوب سيارة بوكس أراد ضابط شاب ملأها
بالمارة لفبركة محضر يضاف لسجله المهني، فرفض شبيب؛ إذ لم يرتكب جرما لتوقيفه أو
حشره في سيارة ترحيل، فما كان من الضابط ومن معه (أمناء وضباط شرطة) إلا وأوسعوا
شبيب ضربا ثم تعذيبا وإهانة في مخفر للشرطة حتى قابل وجه كريم، مات الرجل.
وفي مصر تسعون مليونا يتلقون الصفعات والركلات
بدرجات وأشكال متفاوتة، القليل للغاية يرد الإهانة أو يرفضها، والحكومات المتوالية
على هذا البلد النهري المحاط بصحراء شاسعة هم آلهة، نصبوا أنفسهم هكذا، ويتفنن
هؤلاء الآلهة في صفع الشعب، وقبل الأخير هذا بدرجات أيضا، محنيا رأسه متطلعا لمخرج
ولو بعد حين، وعندما دخلت بعض "الديانات السماوية" مسيحية وإسلام لهذا
البلد، أصبح الآلهة أكثر عددا وفجرا؛ فالحاكم إله، وجامع المكوس إله، الحكمدار
وحتى عسكري الدرك إله، مدام عنايات صاحبة الختم الأزرق في أية مصلحة حكومية إلهة، .....
وهكذا، وعندما ولت أسرة محمد علي جاء آلهة جدد برتب عسكرية علقوها على أكتافهم أو
تركوها جانبا إلى حين الحاجة لإبرازها من جديد، كل صاحب منصب في هذا البلد يتعامل
باعتباره صاحب اليد الطولى والذي لا ترد له كلمة، فما بالك بالصفعة؟!
ما فعله شبيب هو ما تربى عليه في قريته بالأقصر
وليس ما جرى العرف عليه في علاقة الحاكم بالمحكومين بمصر ككل ، شبيب فهم منذ صغره
إنه غير مسموح لأحد بالاعتداء البدني عليك وإن الصفعة على الوجه أشد من القتل
وانتقاص لك كرجل وآدمي، ترى من أين جاءت هذه الأفكار السيئة؟، رد الرجل كرامته
وطبق ما تعلمه، فرد الإله أبو نسر وكاب بقتله، متيقنا ان نسورا وكابات ستحميه ،
ألم يقل كبيرهم قبل أيام انه جاء لا ليناقش التجاوزات بل ليحيي الشرطة؟ يحيى جهاز
القمع الذي يخدم ويخدّم على طبقة الحكام المتعفنة التي تحكم مصر منذ قرون، طبقة
معدومي المواهب ومحدودي الأفق الذين يبرطمون بقصص وحواديت شخصية في حواراتهم. وحتى
مرسي أبو ذقن وشارب لم يفكر يوما في تطهير جهاز الشرطة ( أحد المطالب السبعة التي
كتبناها، جموع المتظاهرين أو الثائرين، في ميدان التحرير) ولم يستشعر حرجا في
الاعتماد عليهم في قمع معارضيه مع بعض من ميليشيات جماعته عند الحاجة.
قتل "خالد سعيد" ضربا وركلا على بسطات منزل ورخام مدخل عمارة، ولأنه شاب متعلم يعزف الجيتار؛ وجد البعض في صورته الذهنية ما قد يحرك تعاطفا ويشعر الشباب بتماهٍ ولو جزئي معه، ورغم أن من نزل احتجاجا في ثورة 25 يناير وتلقى "العلقة السخنة" كانوا فقراء ومقهورين وأكملوا بالكاد حلقة أو اثنتين من تعليمهم، ورغم ان غالب من استشهد في المعارك كانوا ولا زالوا مجهولين مغمورين غير مرحب بهم إعلاميا (فيما فتحت المنابر للأفاقين ممن سموا بشباب الثورة) فإن الذين يقودون ويبعثون صوب التغيير الحقيقي الآن هم أمثال شبيب، الذين يطبقون دروسا بسيطة مباشرة تعلموها في الصغر في الكتاب أو على يد كبار السن: لا تقبل الإهانة، ورُد كرامتك في التو واللحظة. شبيب واحد من ثلاثة على الأقل قتلوا على يد أحد أعرق الأجهزة القمعية بالمنطقة العربية، ربما ليس الجهاز الأعتى لكنه الأقدم والأكثر مكرا وفجرا، ثم يأتي غربان الإعلام الخاص والأمني ليكرروا ما فعلوا في كل حادث تعذيب وقتل: تشويه الضحية وتبرير الجرم. أما ما فعلته وزارة الداخلية فكان نقل أحد المتهمين بواقعة التعذيب لمحافظة أخرى (قُتل فيها طبيب على يد ضابط آخر!).. حلول عبقرية.. نعم كان شبيب أرزقيا وبياعا سريحا لسلع مقلدة، فليكن؛ لكنه رجل وبطل وقائد حقيقي للتغيير ورفض للقمع والجبروت حتى عندما يأتي من أصغر ممثل للطغم الحاكمة.