كتبت/ أميرة الطحاوي.
بقدر من الجرأة غير المحسوبة، اختار مسؤلو الحكومة المصرية إما النفي أو التشكيك في التقارير الإعلامية والحقوقية التي تحدثت عن احتجاز مئات من اللاجئين وملتمسي الحماية والمهاجرين الأفارقة في سيناء منذ أكثر من شهر طلباً للفدية. والحقيقة أن حالة الإنكار التي تحاول الأجهزة الأمنية والدبلوماسية تصديرها لن تخدع أحداً هذه المرة؛ فما يحدث في سيناء مريع حقاً، والأدلة عليه متوافرة، وقد يكشف المزيد منها قريبا بما لن يترك مجالاً لحفظ ماء وجه أحد. كما أن تخلي الدولة المصرية عن وظائفها التنموية والسيادية في أجزاء كثيرة من سيناء، وعجزها أحيانا عن القيام بوظائفها من انتشار وبسط الأمن، يعني أن الدولة اختارت بوضوح أن تبقى على الهامش في هذه البقعة، وكل ما هنالك أنها فقط تُكبر أن يتحدث الآخرون عن أعراض انسحابها هذا.
أما ما أعلنه (أمس) السيد محمد عبد الحكم مساعد وزير الخارجية المصري أن الجهود المكثفة "لتمشيط المنطقة" في اليومين الماضيين أثبتت “عدم صحة أو دقة” هذه التقارير، فهو تصريح بلا قيمة، بعد أن أرسل (وقبل أسبوع) لوزارته كذا لوزارة الداخلية بعض الأدلة الدامغة على استمرار عمليات احتجاز الأفارقة في سيناء طلبا لمزيد من الأموال (وهو أقرب للاختطاف)، ثم التهديد بقتلهم (بما يحولهم لرهائن بشرية)، إن هذه الحوادث لم تقع قبل شهر أو اثنين بل بدأت من عام وأكثر، والأدلة عليها لا تتوافر للمتابعين فقط، بل هدد بنشرها مؤخرا حقوقيون في أوربا وكندا.أما مسألة تمشيط سيناء اتي يشير لها المسؤول المصري فمن أطرف الجمل البلاغية حقا.ً
والحديث الأخير هو عن ٢٥٠ لاجئا ومهاجرا( ٧٤ إرتريا وعدد مقارب من الإثيوبيين وآخرون من السودان، الصومال، وعدد اقل من ساحل العاج) وتشير مصادر المهاجرين لقتل ٦ منهم (علي الأقل) وتحديدا يومي ٢٨ و٣٠ نوفمبر الماضي، وانه مجرد حادث يتكرر، وسيتكرر؛ فهناك تجمعات أخري للاجئين من إثيوبيا وإرتريا بالأخص لازالوا رهن الاحتجاز أو الاختطاف طلباً للفدية، ويفتخر أحد المهربين أنه يجري نقلهم “إذا رغبت في ذلك” صحيح انه ينفي تماما إقدام (المهربين) على قتل أو اغتصاب أحد، لكنه يصيغ جملته بوضوح “إنهم بلا أوراق ودخلوا مصر بلا تسجيل .... وإذا اضطر فإن قتلهم علي الحدود ليس صعبا ”.
يحدث أن يتصل المتسللون بأقاربهم عبر هواتف المهربين ويقصون لهم ما يتلقونه من تهديدات، بعض المنظمات الغربية أرسلت استغاثة للرئيس المصري والوزارات والجهات المعنية بالقاهرة، بعضها طلب تدخل دول أوربية ومنظمات الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة، بعض المتسللين وحتى المهربين كان لديهم حديث هاتفي مع منظمات أجنبية خاصة في ايطاليا. بعض المنظمات الأجنبية طلبت من رئيسي وزراء ايطاليا وفرنسا التدخل/ أو التوسط لدى الرئيس المصري للعمل على إطلاق سراح هؤلاء. بل وتستخدم بعض الجهات لفظ "الُمخْتطَفين المسيحيين" عند حديثها عنهم.
طبيعي ألا يقبل هؤلاء المهربون الحديث علنا مع الإعلام، لكن ما يدهش حقا أن يسال احدهم إذا كان لديك اتصال بأحد في إسرائيل!.
ومع إصرار الحكومة المصرية على إخفاء الحقائق عن مواطنيها ونفي وجود محتجزين باعتبار هذا الأمر منافيا للمنطق أو مسيئا لسمعة الأمن المصري في سيناء، يصبح على الإعلام مهمة كشف النقاب عن حقيقة ما يحدث في سيناء ، وليس فقط في واقعة الـ٢٥٠ محتجزا..
في ٢٠٠٩ نقل عن مهاجرين فروا لإسرائيل روايتهم لوقائع احتجازهم من قبل المهربين طلبا لمزيد من الأموال يدفعها عادة أقارب لهم سبقوهم لإسرائيل. يحدث أحيانا أن يتم تسليم بعض المهاجرين لمهرب آخر، يشير بعضهم لتعرضهم لمعاملة سيئة ومنع الطعام والماء عنهم لفترات.
في بداية العام الجاري ألقت أجهزة الأمن الإسرائيلية في تل أبيب على رجلين - إثيوبي وإرتري- يمثلان حلقة وصل بين المهربين في مصر وأقارب اللاجئين، كانا تحت المراقبة لفترة سابقة، و قد اعترفا أنهما يتسلمان الفدية فيطلق المهربون في مصر سراح اللاجيء أو المهاجر، حيث يتم تحويل نصيبه من تلك الأموال بطريقة ما.
مع نهاية الصيف الفائت، وفي سبتمبر ٢٠١٠ زاد عدد الأفارقة ممن لازالوا محتجزين في سيناء في مناطق قريبة من الحدود ليتعدى المئات بكثير، يُتركون غالب الوقت فيما يشبه الأكشاك أو غرف ذات جدران مصنوعة من الصفيح والخشب غالبا، سقفها مصنوع من أبواب المحلات وقد يعلوها سعف النخيل، وإذا اضطر المهربون لنقلهم يكون هذا من نقطة لأخرى قريبة، وفي حاويات ضخمة مخصصة بالأساس لنقل المياه والبنزين، والمصادمات القليلة التي جرت مع المختطفين الذين حالوا الفرار انتهت ذات مرة بقتل احد المهربين ، ومرات أخرى بقتل عدد من المتسللين أنفسهم حاولوا الفرار، في نوفمبر الماضي حاول ١٢ رجالا الفرار وكانوا مقيدين معا بسلاسل حديدية وقتل ٣ منهم بالرصاص. ونادرا ما تتدخل أجهزة الأمن في هذه الحوادث أو تتواجد قرب مناطق وقوعها.
في حالات كثيرة يتحجج المهرب مثلا انه اتفق على مبلغ اكبر مع من ورد أو نقل اللاجيء أو المهاجر له، ويطلب منهم الاتصال بقريب لهم في إسرائيل وأحيانا بأقارب في ايطاليا أو كندا، بحيث يرسلوها أيضا للوسيط داخل إسرائيل، ولحين تدبير المبلغ/ الفدية ينتظر المتسللون في ظروف “مريعة” وقد يجبرون على العمل لدي مهربيهم، وهم يعدون أحيانا طعامهم، وقد يتركهم المهربون لفترات طويلة دون ماء أو طعام بعد أن تُغلق عليهم الشاحنة، هناك سيدات وضعن حملهن أثناء الاحتجاز، أكثر ما يخيف المتسللين هو الموت خنقاً عند بقائهم داخل الحاوية، هناك تفاصيل كثيرة تجعل البعض بالخارج يقول أن المهاجرين يلقون معاملة "العبيد"
إعلان السلطات المصرية الأربعاء عن القبض على ٨٣ أفريقيا شمال السويس لا يضيف شيئا، فسلطة رجال الأمن لسبب أو لآخر تتقلص شرقاً، وإذا وصل اللاجيء إلى “السلك” فهو بالضرورة محظوظ طالما لم يصب برصاصة احد حراس الحدود.
في الأول من ديسبمر الجاري أصدرت ٤ منظمات حقوقية وخيرية مسيحية (بالخارج) نداء للحكومة المصرية والمجتمع الدولي "لتحرير المختطفين" بحسب تعبيرها، (وان قصرت حديثها عن الـ ٢٥٠ محتجزا) وإنهاء معاناة هؤلاء الرهائن.
الأحد الماضي، شملهم بابا الفاتيكان ضمن آخرين بدعوته أتباعه للصلاة من اجلهم. لقد اهتمت نشرات غربية بالأمر بعد ذلك.
وقد أرسلت مفوضية اللاجئين قبل فترة وجيزة للخارجية المصرية سؤالا “مهذبا” لمعرفة مصير هؤلاء “إذا صحت التقارير” ثم أعلنت عن الأمر ضمنا في بيان باعتباره مجرد تقارير “إعلامية”، أعقبه تصريح من مسؤل بالمفوضية في جينيف بان الجانب المصري وعد فعلا ببحث صحة هذه التقارير الإعلامية. قبل أن يتحدث مسؤل مصري الثلاثاء عن عدم دقة التقارير التي تحدثت عن “٣٠٠” محتجز.! .
وقبل أن تخرج وزارة الداخلية المصرية بنفيها لصحة هذه التقارير بعد أن مشطت المنطقة على مدار الساعة، أي منطقة؟ وأي تمشيط ؟
لقد أرسل للوزارة المبجلة ملف يحوي جنسيات المتسللين/ الرهائن، وأسماء بعض الخاطفين، وأرقام هواتف يستخدمونها في الاتصال، ونقاط وجدوا فيها على الشريط الحدودي، ومحادثات تمت حول الفدية. لكن يبدو أن هذا كله لا يجد صدى لان الأجهزة المصرية اختارت أصلا الانسحاب من هذه المنطقة، .. انسحبت هي الأخرى بدرجات وعلى مراحل منذ استعادتها كاملة من إسرائيل، ومن المكرر التذكير بأن الحكومة مسئولة عن الحالة المزرية والمتخلفة التي عليها أجزاء كثيرة من سيناء، وعن البطالة التي تشمل قطاعات كثيرة من شبابها، حيث يصبح القيام بأعمال غير مشروعة الخيار الأقرب للعمل أو للإثراء، كل حسب استعداده أو حظه القبلي والجغرافي........
وعندما تشكو الدولة وإعلامها من الخارجين عن القانون أو من التهريب بأنواعه في سيناء، وكأنه صداع مزمن يؤرقها، فهذا دور لا تجيد تمثيله. فهي مستفيدة من تخليها عن دورها الأصلي هناك وتستبدل به دور الضحية، وعندما يطرح الإعلام الأجنبي - أيا كان - بعض الحقائق والحوادث التي تدلل على هذا الانسحاب، تبدأ ماكينة الإعلام الحكومي وبعض المسؤولين إما في نفي ذلك أو التشكيك فيه، لقد قالت الداخلية المصرية أن هذه القصص عن الرهائن مستبعدة الحدوث لأنها غير منطقية إذ كيف تحدث في غياب أجهزة الأمن، الحكومة تعلم جيدا ما يحدث في غيابها وتعلم مدى هذا الغياب، مثلما تعلم أيضا باستفادة بعض عناصر الأمن داخل سيناء من هذه العمليات.
في بعض شهادات اللاجئين ممن فروا لإسرائيل في العام الماضي جمل تتكرر عن ضربهم وتعرضهم لصعق بالكهرباء وتقييدهم بسلاسل حديدية، وفصل النساء والأطفال عن أقاربهم وأزواجهم، وبعض النساء تحدثن عن اغتصابهن، وينفي سيناويون استخدام العنف معهم أو قتل المتسللين. تتكرر نفس الروايات ن قبل المحتجزين حاليا في سيناء.
لقد حاولت سوزان مبارك وحكومة مصر قبل عام ونصف أن تستفيد - مثل دول أخرى في شمال أفريقيا- من الاهتمام والدعم الأوربي لوقف الهجرة غير الشرعية والاهتمام الأممي بمنع الاتجار في البشر، لسؤ حظها لم تصمد قضية فبراير الماضي عن “عصابات التهريب من أفريقيا إلى أوربا” أمام القضاء. مثلما حدث من اهتمام بتقديم حالات التزويج القسري للفتيات دون السن القانونية بتوصيفات أخرى - كمكافحة الاتجار بالبشر- مخالفة لحقيقة هذه الجرائم أملا في تضمينها اهتمامات الخارج. لا يمكن أن تستمر معالجة مشاكل جدية وخطيرة بهذا التخبط ، وان يتم توظيفها بهذه الطريقة الانتقائية والظرفية.
الخميس، عاد الحديث الحكومي عن جهود مصر في “مكافحة الاتجار في البشر” وبالطبع الصق أيضا “الهجرة غير الشرعية” فهل هناك ضمن حاشية السيدة الأولى من يدرك أن الاتحاد الأوربي مهتم أكثر - وفي هذه الفترة- بمكافحة الهجرة لسواحله على المتوسط وليس إلى إسرائيل؟ أو من ينبه لضرورة معالجة أزمة هؤلاء الأفارقة لمتسللين أو المهربين أو الرهائن ... الخ بحكمة أكبر وألا تترك مثل هذه الحوادث المتكررة للتفاقم؟
ماذا لو عادت الأجهزة الأمنية عن “نفيها غير المباشر” وتشككها في حوادث اختطاف اللاجئين والمهاجرين؟ وأقرت بحدوث بعضها؟ هل هي قادرة بقوتها ومهارتها الحالية على وقف هذه الحوادث؟ على تحرير الرهائن أو إطلاق سراح بقية المتسللين؟ هل ستسخدم الحكومة فزاعة "البدو المارقين" لتفسير ذه الحوادث؟ هل يريد المتسللون المحتجزون (منذ أشهر في بعض الحالات) فعلا حريتهم أم أنهم قطعوا آلاف الكيلومترات للوصول لهدف بعينه؟ هل المنظمات الحقوقية والمسيحية التي تتابع احتجاز هؤلاء الـ٢٥٠ متيقنة أن اطلاق سراح هؤلاء مرهون بدفع ما مجموعه نحو مليوني دولار فقط ؟ هل ستستغل الحكومة المصرية تدخلها لو حدث لتضمه لملف آخر عن جهودها الجبارة في مكافحة “الاتجار في البشر” طلبا لليورو أو بعض الوجاهة والتكريم للسيدة الأولى؟، هناك أيضا من يقتاتون على معاناة المهاجرين واللاجئين في مصر بينما يمنعهم الجبن أو الكسل أو انعدام الكفاءة وآفات أخرى من القيام بدور. هذا يسعد الحكومة المصرية لأنه يعزز نفيها مستشهدة بعدم وجود تقارير محلية تؤكد تلك الحوادث. البعض سيكتفي ببيانات عرجاء غالبها بلا قيمة ولو على صعيد المعلومات، لكن لماذا جاء الاهتمام الأكبر بأزمة الرهائن الأخيرة من قبل إسرائيليين وإيطاليين؟ الأسباب كثيرة، لكن ما يخجل حقا أن لإسرائيليين يعرفون عن أزمة الرهائن الأخيرة بالذات أكثر من كل المصريين (وحتى لو وظفوا هذا لأغراض أخرى غير حقوقية، هذا لا ينفي ذاك). إذا واصلت الحكومة المصرية التضليل وحجب المعلومات الحقيقية عن مواطنيها أو منع رجال الإعلام وبقية مواطنيها من التنقل في سيناء بحرية، فهي تواصل عزلها لسيناء وتتنازل عن دورها وتتهرب من وظائفها، ومن ثم عليها ان تتحمل مسؤلية ما يحدث هناك من اختراقات.
لقد حركت منظمة إيطالية دعوى ضد بعض المهربين بأسمائهم في خطاب ارسلته للنائب العام المصري، ولست على يقين من إمكانية او فاعلية ذلك قانونيا، لكن هناك قوى أخرى موازية او بديلة أقامتها أو تغاضت عن قيامها الحكومة المصرية في سيناء، تعيش كل منها في تبادل وظيفي، تعرف كل واحدة حدودها، وتعلن غضبها من الأخرى، لكنهما في الحقيقة مرتبطين وجودا واستمرارا بأكثر مما نتخيل، لا مزيد من الاستطراد.. ربما أكتب لاحقا تفاصيل أكثر عن ازمة هؤلاء المهاجرين واللاجئين، بعد أن تخف الدهشة من قدرة الحكومة المصرية المطلقة على انكار ونفي الحقائق المعلنة
١٠ ديسمبر ٢٠١٠...
١٠ ديسمبر ٢٠١٠...