بمجرد أن سألتني "ازيك" كدت أخبرها كما أفعل دوماً أمام هذا السؤال السحري عن التلفزيون الذي أصلحناه وخناقة الجيران على من يدفع لإصلاح مواسير المياه و.. و...، لكنني وجدتها فرصةً لأسألها بغتةً:هل تحنين لبوش؟ كانت واحدة من بين عشرات السيدات من ذوي المعتقلين في سجون مبارك اللاتي قمن باعتصام رائد لأربعة أشهر في نقابة المحامين المصرية العام 2006 وغالبهم اعتقل منتصف التسعينات، وبعضهم كان وقتها في المرحلة الثانوية.قالت أنها لم تفكر أبدا في أن يكون ضغط الخارج على مبارك هو ما سيجبر الأخير على إطلاق سراح ابنها المعتقل حتى الآن(نحن في 2010)، وأنها سمعت بمبادرة سجين والعد التنازلي لمائة يوم لإطلاق سراح المعتقلين قبيل الانتخابات الرئاسية 2005 وكانت تعتقد أن مبارك قد "اكتفى" ويريد أن ينهي حكمه "وقتها" برفع الظلم لأنه "سيقابل وجه كريم" فاشتركت في الاعتصام، سألتها إن كانت تظن أن أوباما الآن سيدفع مبارك للإفراج عن المعتقلين بلا أحكام قضائية ومنهم ابنها، ردت: وهل يعرف عدد المغيبين في مصر حتى يطالب أو يتأكد أنهم نالوا حريتهم مثلا.
عن جريدة نهضة مصر 25 مايو 2010
في مقال أخير بدأه عالم الاجتماع والسياسي المصري سعد الدين إبراهيم بالحديث عما سماه "الرُبع" العربي الخالي ديموقراطياً وبالإشارة لمصلح آخر جغرافي هو "الرَبع" الخالي، يضع إبراهيم التحول الديموقراطي في مصر كمفتاح لتحول تشهده بقية هذا "الربع"، إبراهيم نفسه الذي حث أوباما على عدم زيارة مصر قبل عام عقاباً على ديكتاتورية نظامها الحاكم دعا أوباما لجهد لم يسمه لدعم التحول الديموقراطي في مصر، وإن كان أتى على بعض أمثلة منتقدا تخفيض أحد بنود المعونة الأمريكية المخصصة لدعم الديموقراطية عبر منظمات غير حكومية.
لا تسير الأمور هكذا؛ لا الديموقراطية ستحل على مصر في يوم وليلة، وهي لن تجلب بضغط خارجي أيا كان، ولا هي كفيلة أو ضامنة وحدها لاستقرار الأوضاع هنا، ولا هي مفتاح لتحول بقية "الربع" نحو الديموقراطية. إذا حلت ديموقراطية في مصر فلن يجعل هذا مثلا نظام البشير المتسلط يغادر قصره في سكون الليل، وان حدث فمن سيضمن إلا يأتي مكانه حليف الأمس الذي لم يصبح بالطبع ديموقراطيا لمجرد إنه أقصي عن السلطة، قد تأتي الحركات المتمردة التي ارتكب بعضها انتهاكات ضد مدنيين في الأقاليم التي يتحدثون باسمها. وهكذا في بلدان أخرى بالمنطقة.
أي ديموقراطية تلك التي يُدعى لإحداثها أو الضغط لإحداثها رئيس دولة أخرى، مهما كانت قوتها، أي إهانة تلك واستهانة بقدرات مواطنينا على المطالبة بحقوقهم، الديموقراطية ليست رسالة تحذير يرتعد بسببها مسئولو مصر فيوقعون مرسوما بإحلالها، أنها اصطلاحا عملية وعملية مستمرة أيضا، وحالة لا تضمن بمفردها كل الخير والاستقرار. من هنا أيضا يدهشني قول للبرادعي أن الديموقراطية (مركزاً بشدة على الحريات المدنية والسياسية) هي الحل لمشاكل مصر.بتأمل المشاكل ستجد أن تلك الديموقراطية قد تفلح في حل بعضها لكنها لن تتصدى بمفردها لمشاكل أخرى أعمق.
يشير إبراهيم في مقاله أن نظام مبارك مثلا يلوح بقضية فلسطين كسبًا لدعم أمريكي، وأن النظم المتسلطة العربية وعدت بتحريك ملف السلام في المنطقة ولم تفعل شيئا لهذا الغرض منذ ثلاثين عاما، إن هذا يستدعي التذكير بأن أمريكا أيضا تطلق هذا الوعد -وهي قادرة بحكم معطيات كثيرة على تحقيقه أو لنقل دفعه ليغدو من خيال لواقع ملموس- لكنها لم تفعل..وغالبا لن تفعل.
إن بعض التعليقات على مقال إبراهيم في موقع وول ستريت جورنال تحمل معنى في هذا الاتجاه: إذا كان 60 عاما من مساعداتنا (الأمريكيين) لحل المشكلة الفلسطينية ولم تفلح فلماذا يجب أن ندفع( من الضرائب) المزيد لهذه المهمة. إذا كان الحكام المتسلطين يريدون استمرار المشكلة لكسب شرعية وجود فلماذا نحاول نفس حلها ولا نحل مشاكلنا الداخلية (التامين الصحي الخ )..الذين انتخبوا أوباما فضلوا فيه أمورا بينها إنه لا يسعى لمد إمبراطوريته في مستنقعات جديدة بالخارج ورطهم فيها سلفه بوش. وغير ذلك مما يعكس عدم حماس الأمريكيين لدور بلادهم المفترض في مقرطة هذه البقعة من العالم.
الأهم – والحقيقة ما دفعني للكتابة أو تدوين هذه الخواطر- هو ما جاء في مقال إبراهيم على قصره عن "إحباط" أو بالأحرى "شعور بخيبة أمل" لدى الناشطين المصريين من أوباما و"حنين" لبوش..فلا أنا ولا مئات الناشطين المصريين ومن غير المنتمين تنظيمياً لأي من الكيانات الحزبية الأشهر حالياً بالبلاد، نعتقد أن هذا الوصف ينطبق علينا. لا شعور لدينا بحنين أو خذلان. فالذين كانوا يجتهدون في حدود فهمهم للتغيير بالبلاد منذ 2005 (و أثناء حكم هذا البوش)، مشاركين في حركة الاحتجاج التي عرفت وقتها باسم "كفاية" ثم غيرها من حركات وأنشطة عامة، لم يكن الكثيرون منا يفعلون ذلك إلا لأنهم أرادوا إصلاحا لما اعتبروه أوضاعا مزرية ومأساوية من غير المقبول أن تستمر وتستفحل في وطننا. بعضنا شارك في نشاطات طلابية ومنها استمد أفكاره وبعض خبرته، البعض قرأ وحاول تنفيذ ما استقر في ذهنه كطريق للخلاص، قليلون اندمجوا في دورات تثقيف سياسي وبذلوا جهدهم، غالبنا باختلاف توجهاتنا لم يفدنا الاهتمام "البوشي" بالديموقراطية في مصر، ولا نفتقد هذا الاهتمام الآن من أوباما، اجتهد كثير من زملائنا، ووقعنا في أخطاء، وعولنا على أساليب لم يجد بعضها نفعا، أخطأنا في تقدير الأمور، وتهاوننا أحيانا في قدر بعض القضايا لصالح المطالب المدنية والسياسية، نجحنا ولو قليلا في زحزحة ما يطلق عليه السقف الاحتجاجي وإن بدأت هذه "الزحزحة" وللمفارقة بدعم من النظام نفسه أثناء انتفاضة القدس الثانية، قالوا أن الحاجز النفسي كسر. تستشعر في الوصف مبالغة؛ فهذا ليس بالمكسب الذي يمكن التيقن منه، كما انه ليس من السهل في سنين عددا تغيير مزاج شعوب أو إقبالها على العمل السياسي.
لم نكن وحدنا من ساهم في هذا الزخم العام، لكن المؤكد أننا كناشطين لم نتلق – أو ننتظر - إشارة دعم من هذا البوش لنواصل ما نفعل، ولا لنطمئن أننا غير ملاحقين أو مضارين بسببه، أعني هنا تحديدا العشرات من الناشطين ممن كان يكفي لترهيبهم أو إلحاق الأذى بهم إبلاغ جامعاتهم أو أهاليهم أو حتى الهيئات التي يعملون بها، وصولا لإيذائهم بدنيا وحبسهم. حصلت البلاد على مكاسب بعضها يستحق، بعضها أتفه مما بذل لأجله، بعض المكاسب كحق التظاهر بالشارع ضاع إلى حين مع عودة تغول النظام القمعي لمبارك ضد الناشطين وفعاليات الطريق، لم يكن لبوش أي فضل في كل هذا ولم يمنع ما خسرناه، راودتنا آمال عظام بعضها كان مبالغ فيه حقا..سمعت في بداية 2005 على لسان أحد منظري كفاية أن النظام "خلاص شهرين ويتكل" مضى من عينة هذين الشهرين ثلاثون وهماً ولا زال النظام راسخا وان كان يترنح بسبب ضربات أخرى لسنا من يسددها الآن، سمعنا أحد قادة كفاية يدعو داخل قاعة بها عشرون مستمعاً لمظاهرة مليونية في ميدان عابدين، وعندما كنا نجادل أو ربما نمازح في كون العشرين الحاضرين لن يستطيعوا إبلاغ بقية المليون بموعد المظاهرة أو أن الميدان لن يتحمل هذا العدد، كنا نمطر بالهجوم ونوصم بالمشاغبين من قبل "شماشرجية" كبار الحركة سناً..كانت أيام !....ما يهم هو أنه طوال هذه الفترة (وحتى منتصف مايو آيار 2006) لم نسترشد أو نهتدي – نحن غالب الناشطين والمحتجين (لا أكثر من هذا اللقب ينطبق علينا إذا أردنا الدقة وبعض الإنصاف) بأجندة الديموقراطية الضبابية التي أعلنها بوش فيما كانت فضائح سجن أبو غريب مثلا تظهرها وسائل الإعلام الأمريكية قبل غيرها. وعندما كُشف عن إرسال إدارته معتقلين لدول عربية منها مصر لإجبارهم باستخدام التعذيب على التعاون مع محققين أمريكيين. المحققون الذين وجدوا لاحقاً من بعض نافذي الإدارة الأمريكية نفسها من يعتمد "الإيهام بالغرق" كوسيلة مقبولة للتحقيق مع المتهمين.
لقد كان امتناننا مثلا بمظاهرة أخذت مكانها في كوريا من قبل أقراننا هناك للتنديد بانتهاكات الأمن المصري ضدنا وضد انتهاك حرمة أجساد زميلاتنا أكثر من وقع تصريح باهت من إدارة بوش التي وجدت في نظام مبارك كما غيره من النظم المستبدة بالمنطقة جزء من ترتيبات إقليمية وحاميا بصورة أو بأخرى لمصالحها، ودعمته لعقود للقيام بهذا الدور، وكل ما هنالك أن تلك القبضة القوية التي تمتع بها نظام مبارك لسنوات بدأت تفلت بعض الشيء. فرأت واشنطن أن تجرب أو ترى احتمالات تعثر هذا النظام. فظهرت مصطلحات رنانة مثل الأجندة الديموقراطية والفوضى الخلاقة.
إن موقف بوش أو أجندته الأحادية للديموقراطية لم تقدم الشيء الكثير للمنطقة كلها. والوضع في مصر يختلف تماما عما هو عليه في العراق. وعلاقة الساسة المصريين يجب أن تكون بمواطنيهم مباشرة فليس هناك قوات احتلال أمريكي في القاهرة لنفاوض أو نجري محادثات في عاصمة أخرى. وإذا كان إبراهيم يستشهد"بالديموقراطية الوليدة" في العراق وأنها ستستمر وتتقدم وتصحح أخطاءها فالأمر لا يتربط قط برعاية أمريكية لها، بل بفضل قرار الشعب العراقي الخارج من حروب متتالية وحكام أذاقوه صنوف العذاب وجربت فيه واشنطن أيضا كل حماقاتها، فيما المدنيون العراقيون دفعوا ولازالوا يدفعون من دمائهم ومستقبل أطفالهم ثمن هذه المغامرات الفاشلة، ستنمو هذه الديموقراطية في العراق لأن مواطني هذا البلد بالإضافة لما لديهم من تراكم في الاهتمام السياسي والوعي قد أضيف لهم (وبقدر المحن التي مروا بها) المزيد من الحكمة ليحاصروا بأنفسهم التحزب الطائفي والقومي وشطط الساسة ومناوراتهم التي تنطلق من ذاتية بغيضة. لا يمكن رد أي حراك بالعراق لإدارة بوش التي حصنت جنودها هناك من العقاب فالديموقراطية تعني المساءلة أيضاً. في عام اسود من تاريخ العراق كانت الأمور على حافة حرب أهلية طائفية (2006-2007) الم يكن بوش وقتها على رأس الإدارة الأمريكية؟
لقد شنت أمريكا حربها على أفغانستان ودخلت بعض الفصائل المعارضة في عمليات إسقاط نظام طالبان المتطرف هناك، وقد حظت هذه العملية بدعم غربي مباشر أكثر مما كان عليه الحال في العراق لاحقا، ومع هذا فان المكسب الكبير في إزاحة طالبان قد تلاشى مع عدم استقرار البلاد ثم عاودت طالبان الظهور في أماكن متفرقة بالبلاد. أنت لا تنقل الديموقراطية معك في طائرات ولا على رؤوس الصواريخ وإذا أقصيت طاغية فتعلم أن هناك من سيقارنك به عند أول خطأ ترتكبه. وعندما تأتي بخيال مآتة وتصر على استمراره في الحكم حتى بالتزوير فأنت تستبدل طاغية بآخر حليف لك لا أكثر.
لا يمكن أن نصدق أن هذا الخراب الذي حل بأفغانستان والعراق حدث عرضا في مشوار جلب الديموقراطية على يد بوش. لم يكن من الصواب سياسيًا مقاطعة كل العمل السياسي والإداري لمجرد أن من أزاح الحكم الديكتاتوري في العراق مثلا قوى خارجية. لكن من القاتل سياسيا في حالة مصر أن تدعو أنت هذه القوى لتغير نظام الحكم أو تساندك في أداء "واجبك" تجاه هذا الوطن. إذا كنت أضعف من القيام بهذا الدور بمفردك فالزم دارك. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
لم يحن أي "مخلص واع" هنا لبوش..ربما تجد بعض محدودي الأفق أو المتسلقين ممن يستهويهم هذا المنطق الأعوج يحنون..دعهم يحنون. لكن هذا ليس حال أي من الطلبة الذين كانوا يحاولون توفيق محاضراتهم بالجامعات مع مواعيد مظاهرة أو فعالية عامة تدعو لها المعارضة، ولا المئات ممن كانوا يأتون من محافظات أخرى: الفيوم، بنها والزقازيق لحضور فعالية بالقاهرة ثم يشدون الرحال دون ضجيج إعلامي ودون أن يكون حتى مع معظمهم ثمن المبيت بالقاهرة. أتحدث عن موظفي العقارية ومن تلاهم من المعتصمين والمضربين، لدينا ثقة في قدراتنا وقدرات الآلاف غيرنا ممن سيواصلون العمل لأجل الديموقراطية التي لا تعني فقط حق اختيار س أو ص ليمثل مصالحنا.
هل يشعر أهالي عمال المحلة مثلا بحنين لبوش؟ هل تلقوا من واشنطن رسالة مواساة مثلا؟! العمال الذين طوردوا وألقيت صوبهم القنابل المسيلة للدموع وتلقوا أحكاما قاسية بالسجن قبل عامين في يوم قدر له أن يكون السادس من أبريل...أين هم الآن ؟ هل هم عاتبون على أوباما في شيء؟ ومن الذي جني أو بالأحرى سطا - ولم يزل – على ما قاموا به في هذا اليوم المهيب؟ ومن لازال يساندهم عملياً؟
لا يوجد من بين الـ13 مصريا ممن ماتوا بسبب "ديموقراطية" مبارك في الانتخابات النيابية عام 2005 من يحن لبوش؛ فقد قتلوا في عهده وعهد تابعه، لا يوجد أي من ناشطي تجمع "يد" للمستقلين الذين رفع كل منهم صورة لواحد من هؤلاء الشهداء في ذكرى الأربعين لوفاتهم بينما مبارك يقسم اليمين الدستوري في اجتماع مشترك لمجلسي الشعب والشورى من يحمل امتنانا أو حنينا لهذا البوش.
عندما سحقت علناً كرامة المرأة المصرية في يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية 2005 تحدثت في اليوم التالي وزيرة خارجية بوش، عندما تكرر الاعتداء بعد أسابيع تحدث مسئول ثانٍ بالخارجية مبديا الامتعاض ولكن بعد وقوع الاعتداء بثلاثة أيام كاملة، وبين التاريخين كان الاستفتاء قد أجيز، وكان هناك أيضا عشرات النسوة يتعرضن – كما يحدث قبلها وللآن- للتعذيب والإهانة في مخافر الشرطة المصرية ،فهل نطق أحد في واشنطن بحرف عنهن؟ وحتى هذه التصريحات الأمريكية "المستاءة الممتعضة" لم تمنع لاحقا النظام من تكرار الاعتداء والقبض على عشرات الشباب لمجرد أنهم ساندوا القضاة في اعتصام لهم العام 2006. لقد طرحت زوجة أحد الناشطين المحبوسين والمجدد حبسهم 15 يوما أن نعلن لأمريكا أن معونتها تستخدم لقمع المدنين.لكنهم يعلمون. فالعشرات قد اعتقلوا ليضافوا لآلاف المعتقلين المنسيين منذ التسعينات بلا جرم...أمريكا وبوش – ووقتها كانت أجندته الديموقراطية في أوجها – تعلم هذه الحقيقة جيدا. مثلما تعلم أن دعمها لبعض الأنشطة المدنية الشكلية يرسخ لأقدام النظام نفسه. أنشطة لن تدفع المسيرة الديموقراطية خطوة واحدة للأمام لكنها تجمل صورته وصورة النظام الذي يدعون معارضتهم (أو لم يسمح لهم بمواصلة العمل الحقوقي الهمام؟ ياله من نظام طيب) إنها في النهاية عقلية موظف يسدد خانات لا أكثر ، وليستمر الوضع تحت السيطرة، شد وجذب المهم ألا يسقط النظام في يد من لا نعرفه، هذه ببساطة هي الإدارة الأمريكية في عهد بوش، وهي قطعا ليست خصال مبشر بالحرية وداع للديموقراطية. ورغم خطاب أوباما التاريخي بالقاهرة 2009 ورغم أنه أفضل بكثير من الجهول الذي سبقه، فالرجل لن يغير من ثوابت راسخة لمجرد أن البعض "يعتب" عليه ويذكره بوعود أو "يثير غيرته" بحنين (لا وجود له أصلا) لسابقه.
في اجتماع تحضيري لإحدى المظاهرات التي دعت لها كفاية تفاجأت بأحدهم يقترح تغيير خط المظاهرة كيلا تمر من ميدان طلعت حرب و مقر الغد فيفهم أنها بالتنسيق مع الحزب!، كان أيمن نور المحبوس وقتها قد أرسل مقالا أو رسالة لهذا البوش واعترض البعض هنا، لم أتحمس كثيرًا للاحتياط مما اعتبر "شبهة" التنسيق مع الغد، لكن الذهن جاد بتلك الذكرى ليفهم فقط بعض حجاج واشنطن في أي من العهدين أن لا أحد يحترم مساعيهم غير المشكورة تلك.وأن المزاج العام ليس يرتاب مما يأتي عبر واشنطن.
أتحدث عن مئات المعتصمين ومسانديهم على رصيف البرلمان المصري، آلاف العمال المضربين، عشرات الناشطين الذين يقدمون لهم ما يستطيعون من دعم، أو يتابعون أخبارهم وينقلونها كأضعف الإيمان، أتحدث عن مئات الحقوقيين الذين لا يقصرون عملهم على ما يتفق وأجندة التمويل، لكنهم يصلون الليل بالنهار عندما يعتقل ويعذب ويلاحق أهالي ناحية سكنية بأكملها لمجرد أنهم رفضوا نزع أراضيهم لصالح الحكومة التي لن تخجل بعد أيام من بيعها بثمن بخس للمستثمرين، إن هؤلاء الأهالي ( والذين يحلو للبعض أن يصفهم بالبسطاء) لهم أكثر دراية ووعيًا بحيث أن أحدًا منهم لن يجرؤ أبدًا على القول بأنه محبط من موقف أوباما أو لديه حنين لبوش..لا أحد في "جزيرة محمد" ينتظر شيئًا من أوباما حتى يقول أنه خذلنا، ولا أحد هنا تحصل أصلا على شيء من هذا البوش..حقوقهم يأخذونها بأيديهم ودمائهم أيضا. وبالمناسبة: ألم يعذب ويعتقل العشرات في جزيرة القورصاية مثلاً في 2007 إبان عهد بوش ( وحليفه مبارك).
لقد حج لأوباما مؤخرا مصريون أحدهم يعمل مستشارًا منذ سنوات لأحد ساسة عراق ما بعد الـ 2003 والآخر يرفض الدفاع عن قضايا تمس الدولة الغربية التي يتسول منها التمويل والثالث لا يخجل من المطالبة بعقوبات اقتصادية على بلاده ناسيا أن الفقراء هم من سيدفعون الثمن..هؤلاء لا نريدهم أن يفتحوا أفواههم باسمنا.لم نوكل محدودي العقل وعديمي الموهبة ومقبوري الضمير ليتحدثوا باسم شعبنا، ولم نطلب منهم أبدًا أن يستجدوا الديموقراطية من غريب، فلست تجني من الشوك سوى الأذى لا العنب. تسولوا المال والجلبة الزائفة كيفما يحلو لكم لكن حذار أن تفعلوا هذا باسمنا.
إن حجاج واشنطن وممثليهم مدركون في أنفسهم كم الاحتقار الذي يحتفظ به المسئولون والموظفون الغربيون لهم؛ خاصة أنهم رغم كل الطلاء البراق يعرفون قدرهم "الحقيقي" خاصة إذا قارناهم – تجاوزًا – مع قادة العمال والموظفين المطالبين بحقوقهم ومناصريهم مثلا.
لست أيضاً مع الأصوات التي ترتفع لتجرم بعبارات أقرب "للردح" كل من سافر هنا أو هناك، طالما الغرض الحقيقي معلن وليس فيه تواصل مع حكومات خارجية بغرض طلب دعمها في شأن داخلي. ما يجب أن يساورنا القلق حياله أيضا هو إهمال التنمية والعمل الحقيقي التي بدأت تسود لصالح معارك سياسية مصطنعة، صحيح أن هناك صنف يذهب في مهمات بعناوين براقة وباعتباره قائد قوات تحرير مصر وملهم الجماهير ومطربها المفضل للتغيير، وتكون زيارتهم بالأساس للنزهة "بلوشي" على حساب هذه الجهة أو تلك لكن كل مواطن حر في أن ينصب بادعاءات أو مبالغات عن دوره الخطير في تاريخ مصر، ليتسولوا كما يحلو لهم، تجاهل هؤلاء مفيد أحيانًا، خاصة أنه يتم استبدالهم بغيرهم دوريًا، حصارهم يكون بخلق وعي ومناخ عام هنا داخل بلادنا يحتفي بالعمل الحقيقي وينتصر له، وعندها سيختفي هؤلاء أو ربما يحاولون أن يتعلموا صنعة يقتاتون منها.
ولكن المشكلة في صنف آخر هم حجاج البيت الأبيض الذين ظهروا مؤخرا: إذا أردنا لحصارهم أن يكون فاعلا ونابعا حقا من "خوف على البلاد" فعلى على هذا الحصار أن يسلح بأدلة ويرشد كيلا لا نغرق في معارك كلامية وغوغائية تلهينا عن العمل.
سيبقى هناك الكثير مما يقال عن تصور البعض لحجم الدعم "المأمول" من واشنطن، كل تغيير في موقف القوى الكبرى من نظام مبارك سيكون له تبعات هنا لا يمكن إنكارها، وإن ظل عاملاً لا ننتظره ولا نعول عليه وحده ولا نستجدي حدوثه، بعض الساسة أو المشاهير – أو من يوصفون بالشخصيات العامة رغم انه لا قبول لهم أو معرفة بهم أصلا بين العامة- يعظمون هذا العامل الخارجي لدرجة تشك أنهم يفهمون ألف باء السياسة، سيؤلمهم إخبارهم أن الفيصل أن تعملوا في مجتمعكم المحلي أو تتواصلون مع جموع من تتحدثون باسمهم. دعوهم في غيهم يعمهون ويحنون ويأملون. حاصروهم بالعمل هنا كما يجب أن يكون.
شكرا لدكتور سعد الدين إبراهيم ولجملتيه الساحرتين عن الحنين والخذلان، وليس هذا رداً عليهما بل فيض الخاطر من مجرد قراءتهما، آه..ما أسخف أن يصبح الحج لواشنطن فرضًا والتزلف لها درباً وتوقع الخلاص منها رأيا يجد – ويا للجهل- من يروجه ، فالحق الذي "يستنصر بالباطل" لا يستمر حقاً؛ إذ يسيِّره الباطل كيفما يشاء.
عن جريدة نهضة مصر 25 مايو 2010
في مقال أخير بدأه عالم الاجتماع والسياسي المصري سعد الدين إبراهيم بالحديث عما سماه "الرُبع" العربي الخالي ديموقراطياً وبالإشارة لمصلح آخر جغرافي هو "الرَبع" الخالي، يضع إبراهيم التحول الديموقراطي في مصر كمفتاح لتحول تشهده بقية هذا "الربع"، إبراهيم نفسه الذي حث أوباما على عدم زيارة مصر قبل عام عقاباً على ديكتاتورية نظامها الحاكم دعا أوباما لجهد لم يسمه لدعم التحول الديموقراطي في مصر، وإن كان أتى على بعض أمثلة منتقدا تخفيض أحد بنود المعونة الأمريكية المخصصة لدعم الديموقراطية عبر منظمات غير حكومية.
لا تسير الأمور هكذا؛ لا الديموقراطية ستحل على مصر في يوم وليلة، وهي لن تجلب بضغط خارجي أيا كان، ولا هي كفيلة أو ضامنة وحدها لاستقرار الأوضاع هنا، ولا هي مفتاح لتحول بقية "الربع" نحو الديموقراطية. إذا حلت ديموقراطية في مصر فلن يجعل هذا مثلا نظام البشير المتسلط يغادر قصره في سكون الليل، وان حدث فمن سيضمن إلا يأتي مكانه حليف الأمس الذي لم يصبح بالطبع ديموقراطيا لمجرد إنه أقصي عن السلطة، قد تأتي الحركات المتمردة التي ارتكب بعضها انتهاكات ضد مدنيين في الأقاليم التي يتحدثون باسمها. وهكذا في بلدان أخرى بالمنطقة.
أي ديموقراطية تلك التي يُدعى لإحداثها أو الضغط لإحداثها رئيس دولة أخرى، مهما كانت قوتها، أي إهانة تلك واستهانة بقدرات مواطنينا على المطالبة بحقوقهم، الديموقراطية ليست رسالة تحذير يرتعد بسببها مسئولو مصر فيوقعون مرسوما بإحلالها، أنها اصطلاحا عملية وعملية مستمرة أيضا، وحالة لا تضمن بمفردها كل الخير والاستقرار. من هنا أيضا يدهشني قول للبرادعي أن الديموقراطية (مركزاً بشدة على الحريات المدنية والسياسية) هي الحل لمشاكل مصر.بتأمل المشاكل ستجد أن تلك الديموقراطية قد تفلح في حل بعضها لكنها لن تتصدى بمفردها لمشاكل أخرى أعمق.
يشير إبراهيم في مقاله أن نظام مبارك مثلا يلوح بقضية فلسطين كسبًا لدعم أمريكي، وأن النظم المتسلطة العربية وعدت بتحريك ملف السلام في المنطقة ولم تفعل شيئا لهذا الغرض منذ ثلاثين عاما، إن هذا يستدعي التذكير بأن أمريكا أيضا تطلق هذا الوعد -وهي قادرة بحكم معطيات كثيرة على تحقيقه أو لنقل دفعه ليغدو من خيال لواقع ملموس- لكنها لم تفعل..وغالبا لن تفعل.
إن بعض التعليقات على مقال إبراهيم في موقع وول ستريت جورنال تحمل معنى في هذا الاتجاه: إذا كان 60 عاما من مساعداتنا (الأمريكيين) لحل المشكلة الفلسطينية ولم تفلح فلماذا يجب أن ندفع( من الضرائب) المزيد لهذه المهمة. إذا كان الحكام المتسلطين يريدون استمرار المشكلة لكسب شرعية وجود فلماذا نحاول نفس حلها ولا نحل مشاكلنا الداخلية (التامين الصحي الخ )..الذين انتخبوا أوباما فضلوا فيه أمورا بينها إنه لا يسعى لمد إمبراطوريته في مستنقعات جديدة بالخارج ورطهم فيها سلفه بوش. وغير ذلك مما يعكس عدم حماس الأمريكيين لدور بلادهم المفترض في مقرطة هذه البقعة من العالم.
الأهم – والحقيقة ما دفعني للكتابة أو تدوين هذه الخواطر- هو ما جاء في مقال إبراهيم على قصره عن "إحباط" أو بالأحرى "شعور بخيبة أمل" لدى الناشطين المصريين من أوباما و"حنين" لبوش..فلا أنا ولا مئات الناشطين المصريين ومن غير المنتمين تنظيمياً لأي من الكيانات الحزبية الأشهر حالياً بالبلاد، نعتقد أن هذا الوصف ينطبق علينا. لا شعور لدينا بحنين أو خذلان. فالذين كانوا يجتهدون في حدود فهمهم للتغيير بالبلاد منذ 2005 (و أثناء حكم هذا البوش)، مشاركين في حركة الاحتجاج التي عرفت وقتها باسم "كفاية" ثم غيرها من حركات وأنشطة عامة، لم يكن الكثيرون منا يفعلون ذلك إلا لأنهم أرادوا إصلاحا لما اعتبروه أوضاعا مزرية ومأساوية من غير المقبول أن تستمر وتستفحل في وطننا. بعضنا شارك في نشاطات طلابية ومنها استمد أفكاره وبعض خبرته، البعض قرأ وحاول تنفيذ ما استقر في ذهنه كطريق للخلاص، قليلون اندمجوا في دورات تثقيف سياسي وبذلوا جهدهم، غالبنا باختلاف توجهاتنا لم يفدنا الاهتمام "البوشي" بالديموقراطية في مصر، ولا نفتقد هذا الاهتمام الآن من أوباما، اجتهد كثير من زملائنا، ووقعنا في أخطاء، وعولنا على أساليب لم يجد بعضها نفعا، أخطأنا في تقدير الأمور، وتهاوننا أحيانا في قدر بعض القضايا لصالح المطالب المدنية والسياسية، نجحنا ولو قليلا في زحزحة ما يطلق عليه السقف الاحتجاجي وإن بدأت هذه "الزحزحة" وللمفارقة بدعم من النظام نفسه أثناء انتفاضة القدس الثانية، قالوا أن الحاجز النفسي كسر. تستشعر في الوصف مبالغة؛ فهذا ليس بالمكسب الذي يمكن التيقن منه، كما انه ليس من السهل في سنين عددا تغيير مزاج شعوب أو إقبالها على العمل السياسي.
لم نكن وحدنا من ساهم في هذا الزخم العام، لكن المؤكد أننا كناشطين لم نتلق – أو ننتظر - إشارة دعم من هذا البوش لنواصل ما نفعل، ولا لنطمئن أننا غير ملاحقين أو مضارين بسببه، أعني هنا تحديدا العشرات من الناشطين ممن كان يكفي لترهيبهم أو إلحاق الأذى بهم إبلاغ جامعاتهم أو أهاليهم أو حتى الهيئات التي يعملون بها، وصولا لإيذائهم بدنيا وحبسهم. حصلت البلاد على مكاسب بعضها يستحق، بعضها أتفه مما بذل لأجله، بعض المكاسب كحق التظاهر بالشارع ضاع إلى حين مع عودة تغول النظام القمعي لمبارك ضد الناشطين وفعاليات الطريق، لم يكن لبوش أي فضل في كل هذا ولم يمنع ما خسرناه، راودتنا آمال عظام بعضها كان مبالغ فيه حقا..سمعت في بداية 2005 على لسان أحد منظري كفاية أن النظام "خلاص شهرين ويتكل" مضى من عينة هذين الشهرين ثلاثون وهماً ولا زال النظام راسخا وان كان يترنح بسبب ضربات أخرى لسنا من يسددها الآن، سمعنا أحد قادة كفاية يدعو داخل قاعة بها عشرون مستمعاً لمظاهرة مليونية في ميدان عابدين، وعندما كنا نجادل أو ربما نمازح في كون العشرين الحاضرين لن يستطيعوا إبلاغ بقية المليون بموعد المظاهرة أو أن الميدان لن يتحمل هذا العدد، كنا نمطر بالهجوم ونوصم بالمشاغبين من قبل "شماشرجية" كبار الحركة سناً..كانت أيام !....ما يهم هو أنه طوال هذه الفترة (وحتى منتصف مايو آيار 2006) لم نسترشد أو نهتدي – نحن غالب الناشطين والمحتجين (لا أكثر من هذا اللقب ينطبق علينا إذا أردنا الدقة وبعض الإنصاف) بأجندة الديموقراطية الضبابية التي أعلنها بوش فيما كانت فضائح سجن أبو غريب مثلا تظهرها وسائل الإعلام الأمريكية قبل غيرها. وعندما كُشف عن إرسال إدارته معتقلين لدول عربية منها مصر لإجبارهم باستخدام التعذيب على التعاون مع محققين أمريكيين. المحققون الذين وجدوا لاحقاً من بعض نافذي الإدارة الأمريكية نفسها من يعتمد "الإيهام بالغرق" كوسيلة مقبولة للتحقيق مع المتهمين.
لقد كان امتناننا مثلا بمظاهرة أخذت مكانها في كوريا من قبل أقراننا هناك للتنديد بانتهاكات الأمن المصري ضدنا وضد انتهاك حرمة أجساد زميلاتنا أكثر من وقع تصريح باهت من إدارة بوش التي وجدت في نظام مبارك كما غيره من النظم المستبدة بالمنطقة جزء من ترتيبات إقليمية وحاميا بصورة أو بأخرى لمصالحها، ودعمته لعقود للقيام بهذا الدور، وكل ما هنالك أن تلك القبضة القوية التي تمتع بها نظام مبارك لسنوات بدأت تفلت بعض الشيء. فرأت واشنطن أن تجرب أو ترى احتمالات تعثر هذا النظام. فظهرت مصطلحات رنانة مثل الأجندة الديموقراطية والفوضى الخلاقة.
إن موقف بوش أو أجندته الأحادية للديموقراطية لم تقدم الشيء الكثير للمنطقة كلها. والوضع في مصر يختلف تماما عما هو عليه في العراق. وعلاقة الساسة المصريين يجب أن تكون بمواطنيهم مباشرة فليس هناك قوات احتلال أمريكي في القاهرة لنفاوض أو نجري محادثات في عاصمة أخرى. وإذا كان إبراهيم يستشهد"بالديموقراطية الوليدة" في العراق وأنها ستستمر وتتقدم وتصحح أخطاءها فالأمر لا يتربط قط برعاية أمريكية لها، بل بفضل قرار الشعب العراقي الخارج من حروب متتالية وحكام أذاقوه صنوف العذاب وجربت فيه واشنطن أيضا كل حماقاتها، فيما المدنيون العراقيون دفعوا ولازالوا يدفعون من دمائهم ومستقبل أطفالهم ثمن هذه المغامرات الفاشلة، ستنمو هذه الديموقراطية في العراق لأن مواطني هذا البلد بالإضافة لما لديهم من تراكم في الاهتمام السياسي والوعي قد أضيف لهم (وبقدر المحن التي مروا بها) المزيد من الحكمة ليحاصروا بأنفسهم التحزب الطائفي والقومي وشطط الساسة ومناوراتهم التي تنطلق من ذاتية بغيضة. لا يمكن رد أي حراك بالعراق لإدارة بوش التي حصنت جنودها هناك من العقاب فالديموقراطية تعني المساءلة أيضاً. في عام اسود من تاريخ العراق كانت الأمور على حافة حرب أهلية طائفية (2006-2007) الم يكن بوش وقتها على رأس الإدارة الأمريكية؟
لقد شنت أمريكا حربها على أفغانستان ودخلت بعض الفصائل المعارضة في عمليات إسقاط نظام طالبان المتطرف هناك، وقد حظت هذه العملية بدعم غربي مباشر أكثر مما كان عليه الحال في العراق لاحقا، ومع هذا فان المكسب الكبير في إزاحة طالبان قد تلاشى مع عدم استقرار البلاد ثم عاودت طالبان الظهور في أماكن متفرقة بالبلاد. أنت لا تنقل الديموقراطية معك في طائرات ولا على رؤوس الصواريخ وإذا أقصيت طاغية فتعلم أن هناك من سيقارنك به عند أول خطأ ترتكبه. وعندما تأتي بخيال مآتة وتصر على استمراره في الحكم حتى بالتزوير فأنت تستبدل طاغية بآخر حليف لك لا أكثر.
لا يمكن أن نصدق أن هذا الخراب الذي حل بأفغانستان والعراق حدث عرضا في مشوار جلب الديموقراطية على يد بوش. لم يكن من الصواب سياسيًا مقاطعة كل العمل السياسي والإداري لمجرد أن من أزاح الحكم الديكتاتوري في العراق مثلا قوى خارجية. لكن من القاتل سياسيا في حالة مصر أن تدعو أنت هذه القوى لتغير نظام الحكم أو تساندك في أداء "واجبك" تجاه هذا الوطن. إذا كنت أضعف من القيام بهذا الدور بمفردك فالزم دارك. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
لم يحن أي "مخلص واع" هنا لبوش..ربما تجد بعض محدودي الأفق أو المتسلقين ممن يستهويهم هذا المنطق الأعوج يحنون..دعهم يحنون. لكن هذا ليس حال أي من الطلبة الذين كانوا يحاولون توفيق محاضراتهم بالجامعات مع مواعيد مظاهرة أو فعالية عامة تدعو لها المعارضة، ولا المئات ممن كانوا يأتون من محافظات أخرى: الفيوم، بنها والزقازيق لحضور فعالية بالقاهرة ثم يشدون الرحال دون ضجيج إعلامي ودون أن يكون حتى مع معظمهم ثمن المبيت بالقاهرة. أتحدث عن موظفي العقارية ومن تلاهم من المعتصمين والمضربين، لدينا ثقة في قدراتنا وقدرات الآلاف غيرنا ممن سيواصلون العمل لأجل الديموقراطية التي لا تعني فقط حق اختيار س أو ص ليمثل مصالحنا.
هل يشعر أهالي عمال المحلة مثلا بحنين لبوش؟ هل تلقوا من واشنطن رسالة مواساة مثلا؟! العمال الذين طوردوا وألقيت صوبهم القنابل المسيلة للدموع وتلقوا أحكاما قاسية بالسجن قبل عامين في يوم قدر له أن يكون السادس من أبريل...أين هم الآن ؟ هل هم عاتبون على أوباما في شيء؟ ومن الذي جني أو بالأحرى سطا - ولم يزل – على ما قاموا به في هذا اليوم المهيب؟ ومن لازال يساندهم عملياً؟
لا يوجد من بين الـ13 مصريا ممن ماتوا بسبب "ديموقراطية" مبارك في الانتخابات النيابية عام 2005 من يحن لبوش؛ فقد قتلوا في عهده وعهد تابعه، لا يوجد أي من ناشطي تجمع "يد" للمستقلين الذين رفع كل منهم صورة لواحد من هؤلاء الشهداء في ذكرى الأربعين لوفاتهم بينما مبارك يقسم اليمين الدستوري في اجتماع مشترك لمجلسي الشعب والشورى من يحمل امتنانا أو حنينا لهذا البوش.
عندما سحقت علناً كرامة المرأة المصرية في يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية 2005 تحدثت في اليوم التالي وزيرة خارجية بوش، عندما تكرر الاعتداء بعد أسابيع تحدث مسئول ثانٍ بالخارجية مبديا الامتعاض ولكن بعد وقوع الاعتداء بثلاثة أيام كاملة، وبين التاريخين كان الاستفتاء قد أجيز، وكان هناك أيضا عشرات النسوة يتعرضن – كما يحدث قبلها وللآن- للتعذيب والإهانة في مخافر الشرطة المصرية ،فهل نطق أحد في واشنطن بحرف عنهن؟ وحتى هذه التصريحات الأمريكية "المستاءة الممتعضة" لم تمنع لاحقا النظام من تكرار الاعتداء والقبض على عشرات الشباب لمجرد أنهم ساندوا القضاة في اعتصام لهم العام 2006. لقد طرحت زوجة أحد الناشطين المحبوسين والمجدد حبسهم 15 يوما أن نعلن لأمريكا أن معونتها تستخدم لقمع المدنين.لكنهم يعلمون. فالعشرات قد اعتقلوا ليضافوا لآلاف المعتقلين المنسيين منذ التسعينات بلا جرم...أمريكا وبوش – ووقتها كانت أجندته الديموقراطية في أوجها – تعلم هذه الحقيقة جيدا. مثلما تعلم أن دعمها لبعض الأنشطة المدنية الشكلية يرسخ لأقدام النظام نفسه. أنشطة لن تدفع المسيرة الديموقراطية خطوة واحدة للأمام لكنها تجمل صورته وصورة النظام الذي يدعون معارضتهم (أو لم يسمح لهم بمواصلة العمل الحقوقي الهمام؟ ياله من نظام طيب) إنها في النهاية عقلية موظف يسدد خانات لا أكثر ، وليستمر الوضع تحت السيطرة، شد وجذب المهم ألا يسقط النظام في يد من لا نعرفه، هذه ببساطة هي الإدارة الأمريكية في عهد بوش، وهي قطعا ليست خصال مبشر بالحرية وداع للديموقراطية. ورغم خطاب أوباما التاريخي بالقاهرة 2009 ورغم أنه أفضل بكثير من الجهول الذي سبقه، فالرجل لن يغير من ثوابت راسخة لمجرد أن البعض "يعتب" عليه ويذكره بوعود أو "يثير غيرته" بحنين (لا وجود له أصلا) لسابقه.
في اجتماع تحضيري لإحدى المظاهرات التي دعت لها كفاية تفاجأت بأحدهم يقترح تغيير خط المظاهرة كيلا تمر من ميدان طلعت حرب و مقر الغد فيفهم أنها بالتنسيق مع الحزب!، كان أيمن نور المحبوس وقتها قد أرسل مقالا أو رسالة لهذا البوش واعترض البعض هنا، لم أتحمس كثيرًا للاحتياط مما اعتبر "شبهة" التنسيق مع الغد، لكن الذهن جاد بتلك الذكرى ليفهم فقط بعض حجاج واشنطن في أي من العهدين أن لا أحد يحترم مساعيهم غير المشكورة تلك.وأن المزاج العام ليس يرتاب مما يأتي عبر واشنطن.
أتحدث عن مئات المعتصمين ومسانديهم على رصيف البرلمان المصري، آلاف العمال المضربين، عشرات الناشطين الذين يقدمون لهم ما يستطيعون من دعم، أو يتابعون أخبارهم وينقلونها كأضعف الإيمان، أتحدث عن مئات الحقوقيين الذين لا يقصرون عملهم على ما يتفق وأجندة التمويل، لكنهم يصلون الليل بالنهار عندما يعتقل ويعذب ويلاحق أهالي ناحية سكنية بأكملها لمجرد أنهم رفضوا نزع أراضيهم لصالح الحكومة التي لن تخجل بعد أيام من بيعها بثمن بخس للمستثمرين، إن هؤلاء الأهالي ( والذين يحلو للبعض أن يصفهم بالبسطاء) لهم أكثر دراية ووعيًا بحيث أن أحدًا منهم لن يجرؤ أبدًا على القول بأنه محبط من موقف أوباما أو لديه حنين لبوش..لا أحد في "جزيرة محمد" ينتظر شيئًا من أوباما حتى يقول أنه خذلنا، ولا أحد هنا تحصل أصلا على شيء من هذا البوش..حقوقهم يأخذونها بأيديهم ودمائهم أيضا. وبالمناسبة: ألم يعذب ويعتقل العشرات في جزيرة القورصاية مثلاً في 2007 إبان عهد بوش ( وحليفه مبارك).
لقد حج لأوباما مؤخرا مصريون أحدهم يعمل مستشارًا منذ سنوات لأحد ساسة عراق ما بعد الـ 2003 والآخر يرفض الدفاع عن قضايا تمس الدولة الغربية التي يتسول منها التمويل والثالث لا يخجل من المطالبة بعقوبات اقتصادية على بلاده ناسيا أن الفقراء هم من سيدفعون الثمن..هؤلاء لا نريدهم أن يفتحوا أفواههم باسمنا.لم نوكل محدودي العقل وعديمي الموهبة ومقبوري الضمير ليتحدثوا باسم شعبنا، ولم نطلب منهم أبدًا أن يستجدوا الديموقراطية من غريب، فلست تجني من الشوك سوى الأذى لا العنب. تسولوا المال والجلبة الزائفة كيفما يحلو لكم لكن حذار أن تفعلوا هذا باسمنا.
إن حجاج واشنطن وممثليهم مدركون في أنفسهم كم الاحتقار الذي يحتفظ به المسئولون والموظفون الغربيون لهم؛ خاصة أنهم رغم كل الطلاء البراق يعرفون قدرهم "الحقيقي" خاصة إذا قارناهم – تجاوزًا – مع قادة العمال والموظفين المطالبين بحقوقهم ومناصريهم مثلا.
لست أيضاً مع الأصوات التي ترتفع لتجرم بعبارات أقرب "للردح" كل من سافر هنا أو هناك، طالما الغرض الحقيقي معلن وليس فيه تواصل مع حكومات خارجية بغرض طلب دعمها في شأن داخلي. ما يجب أن يساورنا القلق حياله أيضا هو إهمال التنمية والعمل الحقيقي التي بدأت تسود لصالح معارك سياسية مصطنعة، صحيح أن هناك صنف يذهب في مهمات بعناوين براقة وباعتباره قائد قوات تحرير مصر وملهم الجماهير ومطربها المفضل للتغيير، وتكون زيارتهم بالأساس للنزهة "بلوشي" على حساب هذه الجهة أو تلك لكن كل مواطن حر في أن ينصب بادعاءات أو مبالغات عن دوره الخطير في تاريخ مصر، ليتسولوا كما يحلو لهم، تجاهل هؤلاء مفيد أحيانًا، خاصة أنه يتم استبدالهم بغيرهم دوريًا، حصارهم يكون بخلق وعي ومناخ عام هنا داخل بلادنا يحتفي بالعمل الحقيقي وينتصر له، وعندها سيختفي هؤلاء أو ربما يحاولون أن يتعلموا صنعة يقتاتون منها.
ولكن المشكلة في صنف آخر هم حجاج البيت الأبيض الذين ظهروا مؤخرا: إذا أردنا لحصارهم أن يكون فاعلا ونابعا حقا من "خوف على البلاد" فعلى على هذا الحصار أن يسلح بأدلة ويرشد كيلا لا نغرق في معارك كلامية وغوغائية تلهينا عن العمل.
سيبقى هناك الكثير مما يقال عن تصور البعض لحجم الدعم "المأمول" من واشنطن، كل تغيير في موقف القوى الكبرى من نظام مبارك سيكون له تبعات هنا لا يمكن إنكارها، وإن ظل عاملاً لا ننتظره ولا نعول عليه وحده ولا نستجدي حدوثه، بعض الساسة أو المشاهير – أو من يوصفون بالشخصيات العامة رغم انه لا قبول لهم أو معرفة بهم أصلا بين العامة- يعظمون هذا العامل الخارجي لدرجة تشك أنهم يفهمون ألف باء السياسة، سيؤلمهم إخبارهم أن الفيصل أن تعملوا في مجتمعكم المحلي أو تتواصلون مع جموع من تتحدثون باسمهم. دعوهم في غيهم يعمهون ويحنون ويأملون. حاصروهم بالعمل هنا كما يجب أن يكون.
شكرا لدكتور سعد الدين إبراهيم ولجملتيه الساحرتين عن الحنين والخذلان، وليس هذا رداً عليهما بل فيض الخاطر من مجرد قراءتهما، آه..ما أسخف أن يصبح الحج لواشنطن فرضًا والتزلف لها درباً وتوقع الخلاص منها رأيا يجد – ويا للجهل- من يروجه ، فالحق الذي "يستنصر بالباطل" لا يستمر حقاً؛ إذ يسيِّره الباطل كيفما يشاء.