قبل أيام قدم مواطنون مصريون بلاغًا ضد شخصين بتهمة النصب عليهم وسرقة أموالهم بزعم توفير فرص عمل لهم في السودان، وصل العمال لوادي حلفا- الميناء الحدودي الأول مع مصر حيث يمر الآلاف يومياً- وذهبوا للقنصلية المصرية هناك فوجدوها مغلقة!، وفي تصرف منطقي توجهوا للسفارة المصرية بالعاصمة الخرطوم فرفض مسئولوها مقابلتهم أو استقبال شكواهم، وسألوهم "إيه اللي جابكم السودان؟".
يبدو السؤال متسقا مع سلوك السفارة في حوادث سابقة لعمال مصريين تعرضوا لنصب من مواطنين بالبلدين، وعمال آخرين تعرضوا للتعذيب في العاصمة الخرطوم على يد الشرطة هناك في فبراير الماضي، وقد زاد مؤخراً عدد المصريين المسافرين للسودان بغرض العمل مع رخص أسعار وسهولة إجراءات السفر له دون تأشيرة بحكم اتفاقية الحريات الأربعة بين البلدين.وتكرر أن يدفع عمال أموالا لمتعهدين لتوفير عمل بالسودان (الذي ارتفع فيه الطلب على أعمال البناء والتشييد والخدمات)، ثم يفاجأوا باختفاء المتعهد أو عدم وجود عمل أو اختلاف في الراتب وطبيعة العمل عن المتفق عليه، وبالطبع موقف سفارتنا لا يختلف عن موقفها في حالات مشابهة بعواصم أخرى وبالأخص الخليج، وسؤال موظفي السفارة "إيه اللي جابكم السودان" لم يطرح للرد عليه.. إنه إجابة في حد ذاته بأن "المصري مسئول عن نفسه خارج الحدود .. وداخلها أيضا"؛ فالدولة المصرية حالياً تكرس رفع يدها عن نصرة المظلوم من رعاياها..والنظام ومؤسساته الجليلة كثيرا ما يكون هو اليد التي تلطش حقوق المظلوم أوحتى تلطشه شخصياً.
إيه اللي جابهم السودان؟ هل تريد حقاً الإجابة؟ دعك الآن من "المُـر واللي أمرّ منه"، المسئولون يعلمون أو يفترض أنهم يعلمون أن معدل ترحال مواطنيهم عن بلادهم والهجرة القصيرة لأسباب اقتصادية زاد في العقود الأخيرة، لكن النظام يتعامل مع معطيات البلد الاقتصادية المتدهورة باعتبارها بلاء كتب على الكل احتماله، وعلى هذا فمن يخرج من داره يجب أن يتقل مقداره، وتريد أن تعلمنا جميعاً أن دور الدبلوماسيين بالخارج: فقط أن يمثلوا الموجودين بالداخل، وأن يشرفوا اسم مصر بحضور الحفلات والتقاط الصور وخلافه..فلا نحملهم أكثر من طاقتهم.
وحال هؤلاء الذين تعرضوا للنصب أخف من مشكلة المواطن "سامح السعدني" الذي وصل السودان قبل عامين وعمل ونجح هناك وبعد ذلك النجاح وبسببه أعتقل في يونيو الماضي، وتعرض لتعذيب بدني ونفسي مشين، وعندما عُلم مكانه استغلت مواد من القانون السوداني لتكييف قضية له بدعوى "الكسب الحرام" بغطاء إسلامي، رغم أن تجارته كانت تتم وفقا لنفس القانون السوداني ومجازة بتوقيعات وأختام من هيئات حكومية عديدة هناك..لكن سبحان مغير الأحوال.
أكتب هذا بعد أن فشلت في نشر شكوى أسرة السعدني المعتقل في عدة صحف حكومية دون سبب رغم إرفاق بعض الوثائق ومنها فتوى حصلت عليها أسرة السعدني من الأزهر الشريف بأن نوع التجارة التي كان يقوم به في السودان لا يندرج تحت بند الربا أو المعاملات المحرمة إسلامياً، وعلى ما تقول أسرته وعلى ما نشرت جريدتا آخر لحظة والصحافة السودانيتين فإن سامح مواطن شاب لم يشأ أن يجلس في بيته بعد تخرجه من كلية الآداب فعمل لفترة في مجال المبيعات ثم سافر شرقاً للسعودية وبصورة رسمية، نكرر للسعودية وليس إيطاليا، وعاد بعد عامين ولم يجد عملا مناسبا فسافر جنوباً هذه المرة نحو السودان– وبصورة رسمية أيضاً حتى لا يعتبره المفتى طماعاً.
أخذ سامح معه تحويشة الغربة القصيرة ومساعدات أشقائه وبدأ العمل في الاتصالات وتلقي المدخرات بأرباح تصل لـ 50% على أن تعطى الأموال على شكل سلع منها أجهزة وكروت المحمول والتي كانت تحتسب للمودع بسعر أقل مما لو اشتراه من السوق بنحو الربع، اضطربت أعمال شركات منافسة أحدها لتوظيف المدخرات وأخرى لخدمات المحمول، وبعض النافذين في الحكومة السودانية مساهمون في هذه الشركات، وحسب السعدني فإنهم عرضوا عليه "المشاركة" معه فرفض، وفجأة تم اعتقاله وأوقفت أعمال شركته، ولإحداث تأثير سلبي لدى المتعاملين معها فقد علق على مقر الشركة ببرج التضامن بوسط الخرطوم عبارة "فرع المخابرات المصرية"! وبإيقاف نشاطها؛ فقد تكبدت الشركة الكثير من الخسائر التي تتوالى كل يوم طوال الخمسة أشهر الماضية.
في ملف سامح الكثير من التفاصيل بعضها قانوني والبعض الآخر يتعلق بالتجارة والاقتصاد وحيل واستغلال لثغرات ضده، فقط ننبه لأن موقف سفارتنا هناك لم يتعد حتى الآن مقابلة شقيقه الذي ترك عمله بالخارج ووصل الخرطوم في العاشر من نوفمبر، وبعد الترحيب الحار أخبرته سفارتنا المبجلة أن عليه أن يبحث عن محامي سوداني يتولى القضية ويبحث بالمرة عن مكان للسكن، وربنا يعينه ويقف جنب أخوه..!
ملف المواطن المعتقل متاح للجميع، وبالأخص للمنظمات الحقوقية المصرية التي أتصور- ربما مخطئة- أن ضمن مجال عملها متابعة معاناة مواطنينا بالسودان والخارج..رغم أن هذه المهام قد لا تجذب تمويلا من الجهات المانحة.
كما يتحمل القائمون على أمر السفارة المصرية بالخرطوم الكثير كونهم لا يبصرون القادمين من مصر بشيء.. فهم أصلا لا يرغبون في لقائهم ويتمنون لو لم يأتوا.
بالطبع لو أن هناك ملحقا تجاريا نشطا أو مخلصا يعمل في سفارات مصر بالخارج فإنه لا يقدم فقط إعلانات فرص العمل المتاحة وكتيبات آفاق الاستثمار لرجال الأعمال، لكنه ينبه أيضا للأخطاء التي يمكن الوقوع فيها وللخداع الذي قد يتعرض له الأجنبي، وينبه لاختلافات القوانين والثغرات التي تكفي لتكييف اتهام ضد غير المرغوب فيهم.
وإذا كان هذا يحدث في السودان أقرب الدولة لنا فما هو حال المصريين بدول أوربية تطبق معايير صارمة ضد دخول أراضيها بصورة غير رسمية أو ضد العمل بالمخالفة لتأشيرات الدخول وغالبها سياحية، ومع وجود عائق اللغة الذي يجعل موقف العمال أكثر صعوبة ويتعرضون لكم أكبر من المشاكل.
وقطعاً تتحمل وزارة القوى العاملة نصيبها لعدم تبصيرها الشباب الذي يسافر للسودان بطبيعة المتاح من عمل هناك وحدود الأجر.
وطالما نتناول أمثلة لحوادث جرت تحديداً بالسودان، ضمن كثير من مهالك يقع فيها عمالنا بالخارج، فلن ننسى القول بأن العلاقات بين البلدين كانت وستبقى "خاصة" ولها أهميتها، وليس فقط بإنتاج الأغاني مثل "مصر المؤمنة" ولا بمقابلات رئيسي البلدين بمدرج الإستاد في افتتاح الدورة العربية الرياضية الأخيرة: سيحدث تدعيم للرصيد المشترك بين الشعبين، لكن أيضاً بمحاصرة مثل هذه الحوادث، حتى لا يصبح السودان موئدا لآمال بعض الشباب المصري الباحث عن عمل. ورجاء خاص من سفارتنا بالخرطوم ألا تسألوا الشباب"إيه اللي جابكم السودان" ..على الأقل انتظروا أن توفر الحكومة لهم فرصة عمل شريف في بلدهم، ثم داهموهم وقتها بهذه الأسئلة العبثية.
أميرة الطحاوي
1كانون أول2007