الأربعاء، 19 أبريل 2023

السودان .. يكملان ما بدأه البشير . عن معارك الأيام الأخيرة

                                                                               كتبت أميرة الطحاوي

استمرار الاشتباكات في الخرطوم لليوم الخامس على التوالي - جيتي ايمجز
استمرار الاشتباكات في الخرطوم لليوم الخامس على التوالي - جيتي ايمجز

الخرطوم – كل شيء مخطط له بعناية وسط هذا العبث. ليست مصادفة الاعتداءات في أقل من 24 ساعة على كل من موكب وسيارة السفير الأمريكي برخات رصاص، واختفاء وإصابة السيد فيم فرانسين البلجيكي مدير المساعدة الانسانية والحماية المدنية ببعثة الاتحاد الأوربي بطلقات رصاص أيضا، ثم التعدي على سفير الاتحاد الأوربي نفسه السيد اوهارا بعد اقتحام منزله، ثم النهب المسلح لمجمع أطباء بلا حدود، وقد بدأت هذه السلسلة ضد مسؤولين غربيين بقتل 4 من عاملي برنامج الغذاء العالمي وإصابة آخرين، قبل أن تشتعل المعركة وتحتد في باقي الولايات والعاصمة السبت 15 أبريل 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.

فيم فرانسين مدير المساعدة والحماية ببعثة الاتحاد الأوربي

 

في بلد يعتمد فيه نحو 16 مليون نسمة على برامج المساعدات في الغذاء والطاقة والصحة، والمنسقة والمدعوم غالبها من منظمات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وأوربا وأمريكا، الرسالة مباشرة ترهيبا من قبل قوات الدعم السريع بالأخص، الفصيل المسلح المكون بالأساس من مليشيات الجنجويد التي عاثت في دافور منذ منتصف عام 2003 قتلا وترهيبا بتواطؤ من نظام البشير وقتها، وأعطيت ثوبا رسميا في 2013، لا يداري عارها، وواصلت توسعها عمليا و"سياسيا" بثناء من عدو اليوم، البرهان، خاصة بعد انقلابه على حكومة د. عبد الله حمدوك في 2022.

ترسل قوات الدعم رسالة ترهيب واضحة للغرب، أن هذا ما تستطيعه يداي في اليوم الأول، فماذا أنتم فاعلون، السفارة الأمريكية ترد (ضمنا) أنها تجري محادثات تهدئة بين الطرفين بينما السفير محتميا بمنزله ولن يغادره. كلام في كلام يا عوض دكام. لقد فهموا الرسالة. يفضل الأمريكيون في مواقف كهذه أن ينتظروا من له الغلبة (تتذكر موقف واشنطن من أحداث جنوب السودان في 2014، لا يهم)، ثم يعقدون مع هذا السفاح أو ذاك اتفاق "جنتلمن" يحمي مصالحهم و"رجالهم"، وعادة ما يسوقون لنا، نحن السذج من العامة التواقين لأن يتوقف دائرة الدم، على أنه اتفاق سلام. وقد يستمر لبضع سنوات ثم يظهر أخرق جديد يعيد الكَرَّة، يلاعب ويتشاقى ويعابث هنا وهناك، ويقتل مئات وآلاف، إلى أن يقبل الغرب المذعور بتتويجه ملكا جديدا. عاش الملك مات الملك. المهم ألا تمس ما لي ومالي ومن لي. يقول الغرب أو هكذا سمعته.

 بدوره، الجيش السوداني الذي يحمل ميراثا ثقيلا من القتل والتدمير بالأخص في الجنوب قبل استقلال الأخير، يبدو في هذه المعركة الأخيرة مدافعا، ويتحمل قدرا أقل في الانتهاكات ضد المدنيين (سنفصل، فاصبر)، ليس عن السودان ولا المدنيين، ولكنه مدافعا عن وجوده كقوة، ورجاله ضد قوات شبه رسمية تريد إزاحة من وصفه حميدتي علنا بأحط العبارات في اليوم الأول للهجوم. ما يحدث هو حرب بقاء ووجود للطرفين. والكلام عن هدنة ومفاوضات وتسوية وطاولات ومقاعد الخ لا يصدر عن رشيد. وصل الأمر بينهما أن لمن له الغلبة فليدمر الثاني. 



إنها معركة بين اثنين، لا ليس بين جنرالات، ولكن بين وريث طاغية عسكري ودجال ديني (البشير - الترابي) من ناحية، وربيب عصابة إجرام مارست القتل والاغتصاب والنهب وحرق البشر أحياء ومعهم ما لم تستطع قواتهم نهبه من طحين وغلال. اثنين من القتلة الدمويين. يظهر الأول نفسه (ومعه شرعية ما، فرضها منصبه ومشروعية ما صار من أحوال في البلاد منذ الإطاحة برئيسه في 2019 بموافقة غربية ودولية وما سمي بمرحلة انتقالية)،  ويفرض الثاني وجوده بقوة الإمتداد الجغرافي والطيش والهمجية والمال، وبعض من أوراق السياسة كالتطبيع مثلا مع إسرائيل، ومعه دعم واضح من مشيخة النفط وأمراء الحرب على بعد كيلومترات. تنتهي الحكومة عندما ينتهي الزلط، يقولها سودانيون. من يملك سلاحا يأتي ليفاوضني، قالها المعزول، في مناخ كهذا لا يمكن لك كمتابع (دعك من آلاف الخبراء الذين ظهروا فجأة) أن تكون قد تفاجأت بما حدث خلال الأسبوع الماضي. في جروبات التشات ترسل ميمز "ضاحكة" عن حال سكنة الخرطوم والولايات، وهم يرون التحشيد والتقدم وينتظرون بدء المعركة، يعرفون أن يوم الجنون قادم وقد حدث. ليس بأيديهم شيء وقد غيبهم من حساباتهم نفر من الساسة اللاهثين وراء مناصب ورواتب (وإكراميات) ورحلات وندوات وشهرة ومنح زرقاء منذ 2019 بحماقتهم وانتهازيتهم وجشعهم وجوعهم للثناء والربت على أكتافهم من هذه العاصمة أو تلك. ضيعوا البلاد والعباد. ثم يقولون لك بفجاجة: قد نتوسط بين الجيش وحميدتي. وهم.

موجات النزوح - ا ف ب
 ميدانيا، أصيبت حركة التنقل داخل الخرطوم الممتدة أفقيا بطعنة نافذة، وارتفعت موجة النزوح الداخلي واخلاءات المنازل خاصة من مناطق متضررة، أو أمر أهلها بذلك، شارع في الخرطوم بحري مثلا يهاجمه الهمج ثم يطلبون منك الرحيل، عبث، حدثت زيادة في سعر المحروقات في السوق عامة، وزيادة ضغط على الطرق والكباري التي تعبر بالنازحين لمناطق أقل توترا. يدهشك مثلا أن تطلب عائلة من يخرجها من توتي لشرق النيل، وأخرى من بحري لأم درمان، ثالثة من أم درمان أو جبره (حيث الاشتباكات المستمرة) والتي بمجرد أن تهدأ قليلا يغادر من يستطيع، بل ان أحياء في مناطق "راقية" بحساب طبقي شكلي بحت، تخشى وجود شخصيات "ثقيلة" تسكن جوارها، في اليوم الثاني للأحداث دخل جنود الدعم منزلا فارها يكسرون ويهددون ليكتشفوا انه ليس منزل الرأس الكبيرة التي أتوا لحصادها.

هجمات على المستشفيات بالخرطوم
ليس دقيقا أن سكان العاصمة السودانية لم يخبروا الحرب، الصحيح أنهم جربوها من على بعد خطوة، كالتدخين السلبي، ربما، أبناء العائلات التي سيقت للتجنيد الإلزامي خلال عقدين، مئات الآلاف من الجنوبيين الذين عاشوا في العاصمة هربا من قصف ساكن القصر الجمهوري- بالعاصمة ذاتها - للغابة، لبيوتهم وقطاطيهم، أحداث العنف التي تلت نيفاشا، وعوة قرنق (بعض تجاوزات من الجنوبيين الذين ظنوا أنهم سيحكمون) ثم أحداث العنف والترقب (ما لنا غيرهما) التي تلت مقتل قرنق في حادث ... ما ، ثم هجمة 2008 ثم نازحي دارفور الفارين ليس لمعسكرات على حدود تشاد ولكن الأقرب هنا حتى يدبروا أمرهم سكونا في أحياء مثل شيكان وانجولا وغيرهما، أو رحيلا للخارج في رحلة لجؤ لعقدين لا تضمن لهم شيئا سوى بعض الأمان، أو مكثوا بالعاصمة لأن لهم أسر تعمل بالأخص في التجارة، انظر أسواق ليبيا والشعبي والعربي، كم نازح يعمل هناك، ثم هناك نازخو الخيبات التنموية (وفشل أو إفشال مشروع الجزيرة) والتهجير القسري والمغامرات العسكرية (سجل عندك معارك ومناوشات جبال النوبة وخطوط ابيي وغيرها من معارك هنا وهناك) كل هذا المكتوب أعلاه، أثر على سكان العاصمة وخلق عاصمة جديدة متعبة، ثم يتقاتل عليها قاتل بكاب، وقاتل لبس لتوه الكاب. 

  العاصمة تعرف الحرب الداخلية ، حرب المدن شيء آخر، خبرَتها وعاشتها لكن للإنصاف لم تعرف هذا النوع من المناوشات والضربات الجارية في الأيام الأخيرة، أن تسقط الدانات على المنازل وفي الشوارع وتحرق مخازن الأدوية وتقتل الأطباء والممرضات وتأتي على المدارس وتقتل الطلبة والدارسين، وتتراكم الجثث في الشوارع لا تجد من يواريها أو يجرؤ حتى على أن يصل لها. هذا يعرفه المواطن الآن كضحية مباشرة وهدف لاثنين من الشرهين للسطوة. وكأن ثورة لم تقم على ديكتاتور سابق قبل سنين أربع. وبدلا من تطهير الجيش وحل الميليشيات أعطوا بدعم اقليمي ودولي إشارة على الاستمرار، معركة البرهان وحميدتي ليست إلا حلاوة روح من فلول نظام بائد يتكالبون على جثة ما تبقى من وطن أنهكه الكثير. إنهم يكملون معارك البشير.

S C