Pages

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

عن المثلي جنسيا الذي شيع من المسجد وسط آلاف المعزين


تحديث 12 يناير كانون ثانٍ: (محكمة الأزبكية تقضي ببراءة جميع المتهمين)
*أميرة الطحاوي.
والأمر مبدئيا لا علاقة له بالمنحطة إنسانيا والمتخلفة مهنيا والجاهلة علميا، التلفزيونية التي ارتضت وسعت للعمل مرشدة لجهاز الأمن، وفضلت الأخير على جمهورها الذي يفترض ان تسعى له، وسعدت بان تنتهك خصوصية مواطنين وتصورهم بالقوة لتصنع حلقة ملفقة بوضوح، ليس فيها سوى تدبير وحبكة رخيصة، وكلام مرسل على لسان معدٍّ، وصوت شخص من هنا وآخر من هناك؛ فأي محامي يفهم نصوص القانون المصري يعرف ان هذه القضية تحديدا، رغم كل الضجيج الذي صنع حولها في أقل من 12 ساعة، مقضي عليها أمام أي وكيل نيابة أو قاض محترم، لكن هذه الإثارة المفتعلة حولها (لاحظ كيف تغير اسم الحلقة عدة مرات) وبالنظر لقضايا عدة حكم فيها مؤخرا ضد مثليين جنسيا، أو متهمين بممارسة الجنس المثلي، بتفسير النصوص التشريعية بغير ما وضعت له،وحملات التسقيط السياسي للمعارضين، كل هذا يشي بمناخ آخذ في التضييق بشدة على الحقوق والحريات الفردية، وبوتيرة سريعة، في مصر.
 ليس لأن تسامحا مع المثليين كان الغالب سابقا، لكن القضايا المتلاحقة خلال الأشهر الأخيرة، والأحكام بالسجن لسنوات (3-7) وبعد جلسات سريعة، وإجبار المتهمين على توقيع الكشف الطبي بالقوة، وبنظرية طبية متقادمة (مثل نظرية المذيعة العجيبة عن الإيدز) ثم هذه الحلقة أو السقطة التلفزيونية الأخيرة تجعلنا نستشرف مزيدا من التضييق والتدخل في خصوصيات الأفراد، وتلفيق التهم أو تكييف النصوص القانونية لجعل المختلفين عن الغالبية مذنبين ومستحقين للعقاب قانونيا، وكل هذا ينذر بالأسوأ. 


في تركيا كان الموسيقار والممثل الراحل "زكي مورن" معروفا بانه مثلي الجنس، وكان يضع مساحيق التجميل ويرتدي الملابس المزخرفة، وعاش آخر سنواته برفقة صديقه، وبعدما توفى (خلال برنامج تلفزيوني على الهواء لتكريمه عن مجمل أعماله) خرج المواطنون لتشييعه بعد أن صلي عليه في أحد المساجد. كان هذا منتصف التسعينات، لكن المجتمع نفسه (الذي هو أكثر انفتاحا من المجتمع المصري في نقاط عدة، ويعيش في دولة علمانية لعقود) هُوجمت فيه مؤخرا مظاهرة للمثليين، وأعلن عن مشروع أو لائحة لعزل المساجين المثليين (المحكومين في قضايا مختلفة) في سجون منفصلة، والحجة التي ساقها النظام هناك أنه يريد أن يحميهم من الاعتداء عليهم من بقية المساجين.
هذا التحول الكبير في بلد نصف أوربي، شبه علماني، يعطي إشارات لأن بعض المجتمعات التي كانت إما متعايشة مع وجود مثليين فيها (باعتبار ان المثلية اختيار أو معطى،... المهم انها ليس جريمة) أو على الأقل لا تجرم أو تعاقب أو تترصد أفرادا بسبب انتمائهم أو تفضيلاتهم أو خياراتهم أو توجهاتهم الجنسية، هذه المجتمعات أصبحت الآن تعاقب بما هو أكبر من الإهانة والنبذ والتجاهل للمثليين، وتحتمي بقوانين تُلوى من يدٍّ أو عنق، أو لوائح تُفصل، ويلتقي هذا التوجه مع اللبس في فهم كثيرين (أو بالأحرى عدم فهمهم أو تقبلهم) لمسألة الحريات الفردية والشخصية، وكيف ان أحدا ليس من حقه ان يدخل عليك باب أي مكان اخترت ان يغلق عليك، ليملي عليك الطريقة المناسبة لممارسة الجنس ومع من، طالما ليس هناك إجبار أو تحايل أو استغلال أو إضرار لآخرين، نحن لا ندخل غرف نوم المذيع أو المذيعة الفلانية لنعرف ماذا تفعل، لان هذا ببساطة ضمن الحريات "المصونة دستوريا" أو كما قال الدستور الأخير، ... وحتى ما سبقه، والإعلان أو الإعلانات الدستورية وحتى دستور الدكتاتور مبارك. الردة الحالية مجتمعية وتتعلق بوعي عام أكثر من نصوص وسلطات تنفيذية أو قضائية.

 سيكثر الإعلام في الرد والصد، مثلما سيواصل المهتمون الدفاع أو الهجوم، لكن القضية ليست نحو ثلاثين شخصا حبسوا، أو دحض فكرة طبية ساقها إعلامي، فالإعلام منتهي وميت إلا من رحم ربي، والمواطن الصالح العاقل لا يملك تلفزيونا في مصر، القضية أعمق، فهي توجه يميني أوسع يستشري ويتأصل في هذا المجتمع، ينكر على الآخرين حرياتهم، والتعبير عن آرائهم، بتأصيل ديني أو أخلاقي أو تشريعي (أو الثلاثة معا) ويغذي هذا المد اليميني ماكينة أكبر ليس الإعلام سوى أحد تروسها، لاحظ مثلا أن الاتهام بأنك لص أو عديم الكفاءة أو متسلط لم تعد أشياء يخجل منها احد، والرداءة والخسة والنفاق معايير ترقي الآن في مصر، بل ان البعض يفخر بجهله أو انحطاطه الإنساني والمهني (وبصفاقة منقطعة النظير)، هذا ليس في الإعلام فقط، القادم أسوأ لأننا في ردة حقيقية؛ إذ نهرول للخلف، ونحكم على الآخرين وفق تفضيلاتنا وأهوائنا، وليس وفق مسطرة واحدة تصون الحقوق وتحدد المسافات، والعزاء الوحيد ان مجتمعات وتجمعات أخرى تهرول معنا للهاوية، وإذا لم نفق من هذه الهستيريا، سنسقط جميعا باقتدار؛ حيث لن يمد أحد لنا يدا.