Pages

الجمعة، 16 يونيو 2006

أحمد عبد الله رزة وخمسة أعوام مسروقة من عمر هذا الوطن

أميرة الطحاوي*
رغم عمق الجرح في رحيل معلم و صديق هو الدكتور أحمد عبد الله رزة فإن الرثاء لن يعيده لنا ودموعنا على صدقها لن تخفف حزناً، لكن بوسعنا قطعاً أن نعمل على ألا تتكرر الخسارة؛ أن نؤجل رحيل الأكفاء الأنقياء حتى يستفيد الوطن من كامل قدراتهم، عندما تحين ساعة لا مفر منها.
(1) تحدث "مصباح قطب" بافتتان حقيقي عن تجربة الراحل التنموية في الحي الشعبي الذي تربى فيه "عين الصيرة"، وجدتني لاحقاً و بنفس الافتتان أدافع عن العمل الخدمي في المناطق التي نعرفها وتعرفنا، و قبل أن ينتهي العام نفسه(يونيو 1995) التقيته في ندوة بكليته التي تخرجت فيها لاحقاً "الاقتصاد و العلوم السياسية" باغتني بسؤال ساخر "هو انتي بقى يساريةو لا إيه؟" كنا انتقدنا -كلُّ في تعليق منفصل- مطلب أ.د.صفي الدين خربوش (وأظنه يشغل منصباً في الحكومة الحالية) في حذف الإشارة للحركات اليسارية المصرية من التقرير الاستراتيجي العربي الذي يصدر سنوياً عن الأهرام، لأنه حسب خربوش يعطيها وجوداً وحجماً ليس بحقيقي، رفضنا الفكرة فكرياً و علمياً. في جلسة لاحقة كان لرزة تعقيب على د. أسامة الباز، و كان وقتها مستشاراً لرئيس الجمهورية، سأله بثقة عن الشائعات التي تتردد بالشارع المصري حول ثروة علاء و جمال، ثم قال حرفيا "هل يوجد نار دون دخان؟ أم أن الشعب المصري مغرض بطبيعته؟" بالإضافة لدوره في حركة الطلبة في السبعينات، فقد قدم الكثير بعد عودته لمصر منتصف الثمانينات، لكن نشاطه العام تراجع في السنوات الخمسة الأخيرة كثيراً، بسبب المناخ العام اللافظ أو المحارب للـ"حقيقيين" احتفظ بنقائه في نصف عزلة محببة،كان يحلو له القول أنه يتصرف كما لو أنه على المعاش،فقط أنشأ "نادي الطفل"حيث يأتي أطفال الحي في السادسة مساء لاستخدام الألعاب بحديقة ومكتبة مركز الجيل! ثم محاضرة هنا و هناك لجمهور من عشرات أو مئات وللأسف دون تغطية إعلامية كافية باعتبار أن هناك أولويات أخرى لدى إعلامنا الحكومي الرائد. لم يفقد بوصلته الإنسانية و بمشاعر الإنسان والأب غضب بشدة للانتهاكات التي تعرضت لها الفتيات يوم الاستفتاء على تعديل الدستور، و اشترك في فعالية لاحقة لرفض هذا الجرم(10يونيو05: وقفة ضريح سعد بالشموع) ابتعد عن الزخم السياسي الزاعق دون تراكم حقيقي، ومع ذلك فاجأنا بترشيحه للانتخابات مستقلاً، و أعطى درساً بديعا في تقاليد العمل السياسي بمصر عندما صادفت إحدى جولاته الانتخابية جولة لمرشح آخر إسلامي(أ. مجدي حسين) فنزل بنفسه لتحيته، كان متأثراً في 21فبراير الماضي للخلط الشائع بين يوم الطالب المصري و العالمي، وحزن بشدة لضعف الفعالية التي أقيمت أمام جامعة القاهرة بهذه المناسبة، حزناً مشتركا سجلته وقتها في عيون بعض زملائه من جيل حركة الطلبة بالسبعينات،آخر معاركه كان مطالبته بالحصول على عدد الأصوات التي حصل عليها، وأخرى بسبب سطو على حقوقه الأدبية و الفكرية لكتبه، فاجأني أنه جمع مساعدات لأطفال اللاجئين السودانيين بعد مذبحة المهندسين وبعض الملابس لهم قام بتصنيفها بيده(هو مولع بالنظام و النظافة) حسب النوع و السن. أوردت هذه الأمثلة (و مثلها الكثير) لندرك كيف كان الراحل نشطاً متفاعلاً مع الشأن العام، و في الآن ذاته مخلصاً للمجتمع المحلي الذي ينتمي له كإخلاصه للوطن الذي عشقه بصورة عملية أكثر منها رومانسية أو زاعقة، ومع ذلك و لأسباب عدة لم يتم الاستفادة من هذه الروح المتوقدة بالصورة الكافية، رجاءً لا تفسدوا العناصر الجديدة التي تبدي اهتماما بالشأن العام، لا تعدوهم بنصر سريع، علموهم أن جزءً كبيراً من مصداقية السياسي "أن يكون صادقاً منتمياً" بلا افتعال، وأن يكون شجاعاً دءوباً بلا ضجيج.
(2) حرمان العلم و التعليم
  عقب عودة رزة من الخارج حاملا شهادة الدكتوراة في الاجتماع السياسي من جامعة "مغمورة" بلندن هي كامبردج لم يحصل على وظيفة أكاديمية تليق بتحصيله، وفي هذا الصدد قصص لا محل لها الآن من الإعراب لكن مجملها أن وظائف كانت تفصل لأسماء بعينها- بعضهم كان يصغره خبرة و عمراً- للتعيين، و مع ذلك حرمت عليه باعتباره "مغضوباً عليه"، ومع مرور قطار العمر كان من الصعب أن يتقدم عالمُ مثله لوظيفة مدرس مثلاً، وبهذا حرم آلاف الطلبة لعقدين كاملين من أكاديمي متميز لديه من الخبرة و القدرة الفريدة على التواصل. قام رزة ببعض الدراسات الميدانية في نطاق منظمات اجتماعية، ومنها بحثه الميداني الهام حول الأطفال العاملين بمجالات الورش و المدابغ و الفواخير، وعندما أسس مركز الجيل للدراسات الشبابية رافضاً بوضوح تمويل الجهد البحثي المحدود للمركز كان عليه أن يقوم بتضحية ما؛ فطبيعة هذا النوع من الأبحاث يفترض بها أن تكون ميدانية بالأساس، مسح أو عينة و نزول و استمارات وتفريغ خانات و تحليل إحصائي و نتائج و تنقيح و عينة ضابطة الخ هذا المسار المكلف،فاضطر لتعويض ذلك بمشاهداته الحية و يقظة عينه المستعدة دوما لالتقاط مشاهد ذات دلالة، بعض كتبه لاحقاً "في هذا المجال" على أهميتها كان إما تأملياً أكثر منه تجريبياً أو مجمعاً من مساهمات سابقة له، انتفاء الدعم للجهد البحثي حرمنا من إسهامات أكثرتوسعاً لباحث مقتدر، رجاء: وبأي شكل لا تدعوا ذلك يتكرر ، لمصلحة العلم والمكتبة العربية على الأقل.
(3) عودوا لمجتمعاتكم المحلية رغم عدم التقدير المناسب و استغلال خبرته العلمية، فإن لهفة العائد لخدمة الوطن بأي شكل جعلته لم ينكسر فتعاون في مشروعات مثمرة تخدم محيطه، بمشاركة وتفانٍ من شقيقته (الراحلة أيضا على عجل1999) أ.برلنتي عبد الله،وربما لدى الزملاء(مع حفظ الألقاب) عمر وسعيد ورضا وبرعي وعماد وجمال ومنى ونعمات وفيليب وفاتن و آخرين (خاصةً من أبناء مصر القديمة) ما يضيفونه حول تجربتهم ورزة في العمل بالمجتمع المحلي للاستفادة في تجارب أخرى، رغم بعض العصبية وأحياناً التقلب الفجائي فإن من عرفه يتأقلم معه غالباً، إنني أدين بأربع سنوات من التطوع(و عشرات جاؤنا متطوعين لفترات مختلفة في مشروع الرعاية الجزئية للطفولة العاملة وبعض الأنشطة الثقافية) لمركز الجيل، ولأسباب تخصني لا يمكنني التوقف للآن عن نشاط طوعي خدمي لكن الفضل الحقيقي في زرع هذه القيمة يعود للراحل. إن انتماء المثقف الحقيقي يبدأ من الحي الذي تربىفيها، للشارع الذي ركض فيه صغيراً، للنجوع التي يحلم بالخدمات لها، دعوني أسال كلاً منا و بالأخص القادمين من القاع عن آخر زيارة أو خدمة قاموا بها لهذا القاع، الذي لا يملون الحديث باسم من فيه من مهمشين و فقراء. عودوا لمجتمعاتكم المحلية، للقرى و العشوائيات التي تهتفون بحقوق من فيها، امسحوا عنهم الأمية الأبجدية، أعطوهم من وقتكم و جهدكم، لقنوهم الأبجدية الإجتماعيةوالقانونية،علموهم حقوقهم، ابذروا فيهم الوعي، تنوير فتثوير للفئات الأكثر نقمة، مرحلتان عبرهما سيأتي حقاً التغيير، و سيكون ثابتاً حتماً لأنه سينبع معبراً عن الجماهير وبأيديهم.
(4) طاهر اليد دوماً لا أستطيع الجزم إن كان للراحل قناعات نظرية ومنهجية ضد التمويل الخارجي أم أن الأمر راجع لمراقبته المسار الذي اتخذته خبرات التمويل مصرياً، وانتقاصها من صدقية العمل و استقلاليته في بعض الحالات، فوجئت به في 97 يسألني"هل نقبل تمويل ...... للبرنامج" فرددت ببعض التحذلق وتقضيبة جبين مناسبة "لنتعامل مع الأمر بعيداً عن فوبيا التمويل" قاطعني فوراً "لا لا..اعتبري الفوبيا موجودة و معششة هنا" و أشار ضحكا لرأسه، يعلم المتابعون نزاهة الرجل وطهارة يده، أما مشروع الرعاية الجزئية للأطفال العاملين 1995-2000 فكان يقبل مساعدات عينية كالأطعمة و الملابس و الأدوية للأطفال، أو نقود تخصص لأحد هذه البنود،كانت مصادر تمويل المشروع الذي استمر لـ5سنوات عجيبة، بين تبرعات من منظمات في صورة عينية أو تبرعات فردية، أو علب فارغة من منازل نستخدمها في الأعمال الفنية، بيع كتب بالمرور على الأصدقاء و غير الأصدقاء، التوفير في ثمن مستلزمات ضرورية، اقترحنا عليه بتندر في مارس الماضي أن نؤجر تلفزيون المركز لعرض مباريات كأس العالم فضحك بعمق، قبلها بأيام التقيت بالصدفة أحد أصدقائه الأوفياء وسألني إن كان هناك من يرغب في إيجار قاعة لندوة أو محاضرة بالمركز، جنيهات معدودة لتساعد في سد متطلبات الإيجار لمركز لم يكن يقيم أي مشروع ربحي، لنا أن نتصور: إلى هذا الحد وصلت الأمور، علينا أن نخجل أن صرحا مثل مركز الجيل كان يتعثر لأسباب تافهة كالنقود بينما الفساد يضرب في كل مستويات النظام الذي يؤطر مصيرنا و يخطف مستقبل أولادنا. كان الراحل يسر سرورا كبيراً عندما نأتي له بإيصالات ما اشتريناه حتى لو كان "باكو شاي"، دقيقا يحاسب نفسه و بالبلدي لا يقبل على نفسه القرش الحرام، في مارس الماضي كان الزميل محاسب المركز يطرح عليه أفكاراً كلها شرعية للخروج من أزمة يمر بها المركز فكان الراحل يدقق عدة مرات في الطرق التي كانت كلها قانونية، أدعوه أيضاً ليقدم شهادة عن ذمة الرجل علها تفيد عدداً من ناشطي حقوق الإنسان، بالأخص الحالمين بتعويض عن حقوقهم المشروعة المهضومة في هذا البلد، عندما يهبط عليهم فجأة تمويل ما لمشروع ما، و أدعو لهم بصدق: اللهم نجنا من التجربة أو اجعل ضمائرنا أقوى من الإفساد المتوالي المنتظم للنخبة عبر شرك التمويل.
(5) علينا الآن- تلاميذه ومحبيه ورفاق دربه- ألا نسمح بتكرار هذا الفقد، فالخمس سنوات الأخيرة رغم مساهماته كانت فقداً عظيماً لا يمكن تعويضه لأنه لم يوظف خلالها طاقته المتوهجة كما ينبغي، لنقف إذن مع كل جهد تنموي مماثل، لنعلي قيمة الكفاءة و معايير الأفضلية في الترقي و العمل، لنمنع أي واسطة قد تمنع وصول الأفضل لحقه، لنتضامن مع كل عمل طوعي جاد يتعثر بسبب نقص في الموارد البشرية أو المادية، وفي مجالات التنمية و الخدمة العامة: لنعلي قيمة التطوع لا التطلع، سياسيا و فكرياً: لنحترم خيارات الآخرين و قناعاتهم طالما أن الهدف مشترك، لنساندهم بيقين أن كل جهد سيصب قطعا للصالح المشترك،خاصة أن الغمة تشمل الجميع الآن، ، لنساند ناشطي العمل الأهلي ممن لديهم المزيد ليعطوا و لا أحد يساعدهم على إفراغ وتوظيف هذا العطاء، لنقف بجوار كل صادق حتى لا ينزوي بكبرياء، كما الأفيال عند اقتراب ساعة رحيلها.
*كاتبة مصرية وأحد تلاميذ الراحل- الأهالي 14يونيو2006